تهتمّ دوريات "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" بالجوانب التطبيقية للعلوم الاجتماعية، من خلال الاشتباك مع الظواهر والقضايا الراهنة ضمن مجالات متعددة، بدءاً من التنمية، مروراً بالمواطنة والهوية والديمقراطية، وصولاً إلى مناقشة التحدّيات التي تواجه العرب كأمّة وبلداناً.
في إصدار خاص، أتى العدد الثالث والثلاثون من "تبيّن" (صيف 2020) الذي يحمل عنوان "من الذاكرة إلى دراسات الذاكرة: مقاربات عربية بين تخصصية"، ويقارب حقلاً معرفياً يندر الاهتمام به عربياً، رغم أهميته في التعامل مع التصورات المجتمعية للماضي الجمعي بأدوات منهجية مختلفة.
يشير المحرّر الضيف الباحث زهير سوكاح، في تقديمه العدد، إلى أنه "مع حلول الألفية الجديدة تحولت الذاكرة، مفهوماً وممارسة، إلى ظاهرة مجتمعية عامة ومشتركة، بل متعددة المشارب، إن لم نقل إنها عالمية وعابرة للقوميات"، موضحاً أنه "قد رافق هذا الرجوع العالمي إلى الذاكرة، وما أفرزه من تمظهرات سوسيوثقافية متنوعة إلى درجة التعقد، اهتمام علمي منقطع النظير، ضمن المشهد البحثي في الغرب، وذلك على امتداد العقود الأخيرة، تُؤثثه مجموعة من المفاهيم العلمية الآتية من تخصصات متنوعة، إلا أنها تشترك في كونها تتعامل كلها مع "ثيمة" الذاكرة، التي صارت تجمع وتقرب أكثر من غيرها من الثيمات".
بحلول الألفية الثالثة تحولت الذاكرة إلى ظاهرة مجتمعية
"الذاكرة من منظور مؤرخ" عنوان الدراسة التي كتبها المؤرخ وجيه كوثراني، ينطلق فيها من فرضية أساسية تشدّد على أنه بعد مراجعات عبد الرحمن بن خلدون للكتابة التاريخية العربية والتمييز النقدي، الذي دأب عليه الفلاسفة المسلمون الأقدمون بين المعرفة العقلية والمعرفة الشرعية، لم يجر منذ تلك الأعمال أي تأسيس لنقد إبستيمولوجي جدي وجديد يُسائل المحتوى الأيديولوجي والطبيعة المنهجية للسرديات الكبرى التي أنتجتها الذاكرة التاريخية للمنطقة العربية الإسلامية.
ويرى أنه رغم الأشواط الفكرية غير الهينة، التي عرفها البحث التاريخي العربي خلال العقود الخمسة الأخيرة بالاستفادة من الزخم الفكري الغربي، فإن تجديده الشامل لا يزال في حاجة إلى إطلاق ورشة بحثٍ كبرى تعالج الممارسة التاريخية في المنطقة من جهة كونها نتاج ممارسة ذاكرية لم تُدرس طبائعها على الوجه المأمول.
أما الباحث في اللغات والتاريخ القديم محمد مرقطن، فيطرح في دراسته "ذاكرة المكان: أسماء المدن والقرى الفلسطينية ما بين الاستمرارية التاريخية والطمس الصهيوني" تساؤلات مثل: "ما أماكن الذاكرة الفلسطينية؟ وما حفظت لنا؟ وما الأماكن التي تمّ إيداع التاريخ الفلسطيني فيها؟ وكيف تكوّنت هذه الأماكن؟ وما علاقة الإنسان بالأرض في فلسطين عبر التاريخ؟".
ويفتتح الدارسة باستعراض بعض المقدمات النظرية والمنهجية لدراسة أسماء الأماكن الفلسطينية بالاعتماد على الذاكرة الجَمعِيَّة الفلسطينية، التي تتكون بدورها من الذاكرة الثقافية والذاكرة التواصلية الفلسطينية، ثم يتحول إلى مناقشة مسألة العلاقة بين الذاكرة والتاريخ، مبيناً مسألة هُويّة المكان وأهمية الدراسات اللغوية لأسماء الأماكن الفلسطينية، ويعالج كذلك مسألة التحوّل المكاني للشعب الفلسطيني بعد النكبة وسياسة الطمس الصهيونية لأسماء الأماكن الفلسطينية.
ويكتب الباحث وأستاذ الفلسفة رشيد بوطيب تحت عنوان "تراثنا هو الكون.. شذرات من خطاب في النسيان"، حيث يناقش مسألة العلاقة التي بناها الفكر العربي المعاصر بالتراث، مفككاً أبعادها الأيديولوجية ومسلطاً الضوء على محدوديتها، معرجاً على مختلف القراءات للتراث في السياق العربي المعاصر، التي تنتهي في مجملها، وعلى اختلاف مشاربها ومناهجها، إلى إسقاط صراعات الحاضر على الماضي، وصراعات الماضي على الحاضر، وما يمثله ذلك من عقبة أمام الالتحاق بزمن العالم، والانفتاح على الإنجازات الكبرى للحداثة.
من جانبه، يسعى الباحث إدريس الخضراوي في دراسته "من التاريخ إلى الرواية.. الذاكرة الجمعية مصدراً للسّرد" إلى دراسة العلاقة بين السّرد والتاريخ والذاكرة الجمعية، مستكشفاً التحولات التي طرأت على مفهومَي التاريخ والأدب منذ النصف الثاني من القرن الماضي، على نحوٍ أدّى إلى تجاوز المنظورات السابقة التي كانت مؤسسة على القطيعة بين هذين المجالين، والأهمية التي يحظى بها الأدب، بشكل عام، والرواية بصورة خاصة، في عملية تمثيل الذاكرة. كما يدرس إسهام الرواية العربية المعاصرة في التمثيل السردي للذاكرة الجمعية، من خلال رواية ابنة بونابارت المصرية التي تذكّر أحداثها وشخصياتها التاريخية والمتخيلة بحقبة مؤلمة.
"خطاب العدالة الانتقالية في تونس وصناعة التصنيفات مصفوفة زمان/ مكان/ جسد/ ذاكرة" عنوان دراسة الباحثة صوفية حنازلة التي تتناول بالتحليل مسار العدالة الانتقالية باعتبارها خطاباً يكثف في داخله علاقات قوى متصارعة، وتطرح مصفوفة مفاهيمية جديدة لمقاربة هذا المسار في تونس؛ هي مصفوفة زمان/ مكان/ جسد/ ذاكرة التي تعتبرها الدراسة صلب بنية خطاب العدالة الانتقالية.
وتضمّن العدد أيضاً ترجمتين: الأولى لمقالة "الارتقاء العالمي للذاكرة" لبيير نورا، نقلتها إلى العربية ميرفت أبو خليل، والثانية لمقالة "ترحاليون رقميون: الأوطان-الأرض والأوطان-الصفحات" لصبحي الزبيدي، ترجمها عبد الرحيم الشيخ، ومراجعتين، الأولى لكتاب: "الذاكرة ملاذ السرد: قراءة في ثلاثية أحلام مستغانمي" لعبد الخالق عمراوي، أعدها رشيد الخديري، والثانية لكتاب: "الذاكرة الجمعية" لموريس هالبفاكس، أعدها زهير سوكاح.