"بيروت يا بيروت"

10 مايو 2016

إطلالة على بيروت من الجامعة الأميركية في العام 1900(Getty)

+ الخط -
صرتُ، كلما ذهبت إلى مكانٍ في زيارة، أشعر بشيء من الأسى، بكثيرٍ من الشجن. العواصم الغربية تقهرني قليلاً، لكن، ليس بمثل ما تقهرني المدن المتوسطية التي تبثّ فيّ الغيرَة لأن فيها شيئاً من ضوء بيروت، شواطئها وسمائها، إنما دون كل البقية.

في مرسيليا، حيث شاركت ما بين 6 و8 مايو/ أيار، إلى جانب كتّاب لبنانيين (حسن داود، شريف مجدلاني، فادي الطفيلي) وفرنسيين كتبوا من بين ما كتبوا عن لبنان وعاصمته (أوليفر روهي الذي عاش في لبنان حتى سن السابعة عشر، وله كتب من بينها "عيب في المنشأ"، وبيار بارلان الذي ألف كتاب "كرنتينا" إثر إقامة أدبية في بيروت)، في تظاهرة "بيروت يا بيروت" التي نظمها الباحث والكاتب الفرنسي تييري فابر، المسؤول عن قسم التنمية الثقافية والعلاقات الدولية في  "متحف حضارات أوروبا والبحر الأبيض المتوسط"  MuCem، بالتعاون مع جهاتٍ ثقافية عدة، منها "البيت الدولي للكتّاب" الذي أسسه ويديره الكاتب شريف مجدلاني. في مرسيليا، شعرت أننا إنما اجتمعنا لتأبين مدينةٍ لم تعد، وأن ما جمعنا هو هذا الحب، أو تلك العلاقة الاستثنائية بالمكان، ورغبتنا جميعا في الحديث عمّا كان لنا معه، وفيه، من جميلٍ وقبيح، كمن يروي ذكرياته عن قريب لهٍ استثنائي، لم تكن العلاقة فيه دائماً مستوية، وإن اتسمت بشدّة وقوة.

 

وإذ حكى فادي الطفيلي عن بوابات بيروت السبع التي أضيفت إليها لاحقاً بوابةٌ ثامنةٌ، حين كثر الوافدون إلى المدينة، وعن الوجود الذي ما زال قائماً لذلك السور ولتلك الحجارة، إثر اختلاطها بالبناء الحديث، كنا نرى السور والبوابات، وإن لم تعد، كأننا نرى في المكان المستحدث ظلـَّه القديم، من خلال النظر في مجهر جيناته المكوّنة وخلاياه الخفية.

وإذ حكى حسن داود عن علاقته السردية بالأمكنة، واعتنائه بتفاصيلها وتحولاتها، وأمور ساكنيها في كونها حاضنة لهم، حضرت الحرب في ما كانت تنتجه من خوفٍ لدى الكاتب، وخوف لدى الآخرين، إذ ما الذي هو أهمّ وأكثر استدعاءً لاهتمام روائيّ ممّا تفعله الحرب بالناس، وبما يعدو كل قراءة سياسية.

وإذ روى شريف مجدلاني ولعه بالعائلة مادة روائية، حكى عن عائلات رواياته التي يتناولها في مسارها العام، منذ وجودها في الذروة، مروراً بلحظات تأزمها، وانتهاء بأفولها، أو بأفول زمنها، هو الذي لطالما رأى في لبنان تاريخ عائلات، وفي تاريخ العائلات تاريخ لبنان.

وإذ وقفت الممثلة والكاتبة، دارينا الجندي، وقفتها التراجيدية، لتقرأ مقاطع مختارة من رواياتنا، كل بدوره، بصوتها الموسوم بأحمال مدينتها وقلق أيامها العليلة، لاحت بيروت مضيئة/ مطفأة، مديدة/ مغلقة،  فيما انبسط المتوسط، من ورائنا، جليلاً، تعبره السفن من حين إلى آخر، والناس يجلسون مستمعين ساعات، دونما تململ أو تأفّف، لا يهيبهم وجودُهم في الهواء الطلق، أو في حرقة الشمس.

أما أنا، فقد كان السؤال عن بيروت، في ما مضى، يثير فيّ فرحاً وشعوراً بشيء من الفخر، حين كنت أرى في عيون سائلي الصورَ نفسها التي كانت في رأسي، أي بيروت حاضرةً ثقافية، وبيروت فضاءً للحرية، وبيروت رئةً للعالم العربيّ ومثقفيه، وبيروت المقهى، وبيروت السياح الأجانب، وبيروت سويسرا الشرق، وبيروت في كل وجوهها بحسب هوى زائرها واهتماماته.

أما اليوم، فأكاد أسأل نفسي: ما الذي تُراه ذكّر منظمي التظاهرة بنا، وقد تقدّمت خشبة المسرح مدنٌ أخرى تفوق بيروت تدميراً ووجعاً وموتاً؟ وأكاد أموت خجلا حين اُسأل عن أحوال بيروت، فلا أستطيع الصمت، ولا أستطيع، إن أجبت، إلا قول الحقيقة، وحقيقة بيروت اليوم مخيفة، إذ كيف يمكن شرح العبث معطوفاً على الإفلاس والتحلّل وجنون الفساد في جميع مستوياته.  

عشنا في مرسيليا حسرة بيروت، وفرحنا بالمدينة المتوسطية الجميلة التي ذكّرتنا بما كانت عليه مدينتُنا، ذات حلمٍ بعيد.

 

نجوى بركات
نجوى بركات
كاتبة وروائية لبنانية ومؤسسة محترف "كيف تكتب رواية"