08 يوليو 2019
"الوعد الإلهي" ووعد بلفور
هل تحتاج إسرائيل، في هذه الفترة من عمرها، إلى تبرير ديني لوجودها؟ هل "الوعد الإلهي" ضروري لبقائها ودعم "العالم" لها؟ هذه أسئلة مطروحة اليوم على النقاش، في وسط نخبة من الإسرائيليين في ظل مئة عام على وعد بلفور، وتركيز الخطاب الإسرائيلي الرسمي على اعتراف الفلسطينيين، والعرب، بيهودية الدولة. لكن علينا أن نلاحظ أولاً أننا أمام تناقض، لا يواجهه الفكر، بل حتى السياسة، إلا في الحالة الإسرائيلية. ففيما لا يعرف العالم اليوم جمعا بين الدين والهوية القومية، أو العرقية، في أي مكان في العالم، تقريباً، يجد نفسه مضطراً لهذا الاستثناء اليهودي. ليست "الأمة" اليهودية ديناً فقط، بل هي، قبل أي شيء آخر، عرق! شعب! أديان قليلة تتحدث عن "أمة" منها الإسلام. لكن الإسلام لا يتحدث عن "شعب" إسلامي، ولا عن عرق إسلامي، بل عن هوية دينية، بصرف النظر عن قدرة هذا الطرح على صنع "أمة" كما نعرف الأمم اليوم. تحدث الإسلام عن "شعوب" و"قبائل"، لا يد عليا فيها لشعب أو قبيلة على أخرى إلا في "التقوى"، وهذه، الأخيرة، من الإيمان، ولا هوية عرقية لها. الإسلام دين طلع في أرض العرب، وتبناه في مستهله، عرب، لكنه لم يجعل كل العرب مسلمين. فكانت هناك ردة. فكان أن بقت قبائل عربية على المسيحية، أو حتى اليهودية، السابقتين عليه. هذا نقاش ابتدائي. يعرفه طلاب المدارس الذين بوسعهم الفصل بين الدين والعرق، فهم يعرفون أن هناك مسلمين عرباً وعجماً، بينهم سحن وألوان بشرة من كل القارات تقريباً. أما في المسيحية فلا نقاش مماثل لهذا منذ أمد طويل. المسيحية دين والأعراق أعراق. الإمبراطورية الرومانية هي التي نشرت المسيحية في غير مكان في العالم، ولم تجعل المسيحيين أمة واحدة عائدة إلى عرق واحد ولسان واحد.
بيد أن هذا لا ينطبق على اليهودية، كما صنعها الخطاب الصهيوني غير المتدين. مفارقة، أليس كذلك؟ دعونا نتذكّر بعض المراجع العربية التي يرد فيها ذكر ليهود، سواء في الجزيرة العربية، أم لاحقاً في الأندلس. لا يقترن هذا الذكر بعرق آخر، بل بأشخاص، من بينهم، ظلوا على دينهم القديم، وإن حصل هذا الاقتران، فالأمر يتعلق بقبائل يمنية، مثلاً، أو يثربية.
تطرح "هآرتس" هذا السؤال مجدّداً. فقبل أيام، تناول عمودها الافتتاحي سؤال الدين والوجود الإسرائيلي، وما إذا كان أحدهما محتاجاً إلى الآخر. ماذا لو كان الواحد لا يؤمن بـ "الوعد الإلهي"؟ هل ينفي هذا "حق" اليهود في "وطن قومي" على أرض فلسطين؟ لواحد مثلي، ولكثيرين غيري، لا يؤمنون بالترابط بين الدين و"الشعب" أو "العرق"، يصعب فهم هذا النقاش، حتى عندما تطرحه جهة "علمانية" إسرائيلية. الفارق بين كلام "هآرتس" والمتدينين اليهود معدوم. ففيما يرى "العلمانيون" الإسرائيليون فلسطين وطناً قام على فكرة الصهيونية وحق "الشعب" اليهودي في "وطن قومي"، لم يكن وطنهم في يوم من الأيام، يرى المتدينون أن "الوعد الإلهي" هو الأساس الذي قامت عليه "دولة الشعب اليهودي". ما الفرق بالنسبة لنا؟ لا فرق. فاحتلال فلسطين مبرّر في الحالتين. وفلسطين هي نفسها في الخطابين: أي ليست أرض الشعب الفلسطيني. لا يريد العلمانيون التركيز على الصبغة الدينية لدولةٍ حظيت باعتراف المجتمع الدولي، وأصبحت عضواً في المحافل الدولية، ولا تجادل قوة عالمية في "حقها" في الوجود. الدولة قامت. وها هي موجودة بكل الصيغ القانونية والواقعية التي تدعمها القوة، فما الحاجة، والحال، إلى "وعد إلهي"؟ ما كانت تحتاجه هذه الدولة لتقوم لم يكن "وعداً إلهياً"، بل إلى وعد بلفور. أي وعد الإمبراطورية البريطانية. وعد القوة. وبهذا وحده، قامت إسرائيل ولا بشيء آخر. سؤال "هآرتس" صحيح بلا جدال: لا ضرورة لوعد إلهي. ولا إلى غطاء ديني خرافي يصعب تقبله إلا من مهووسين دينيين. هذا هو واقع الحال. لكن فيما يواصل الإسرائيليون تطوير "سردهم"، انطلاقاً من واقع حالهم، ينتكس الخطاب العربي حيال فلسطين وإسرائيل إلى مستوى غير مسبوق. صار الخطاب العربي حيال "القضية الفلسطينية" مرتبطاً بتكتيكات دولٍ وأنظمة، ليست على تماسّ مباشر مع إسرائيل، تعمل على دعم "شرعياتها" بعلاقات "تحت الطاولة" مع إسرائيل، وربما لن يطول الوقت، لتكون هذه العلاقات على الطاولة وليس تحتها.
بيد أن هذا لا ينطبق على اليهودية، كما صنعها الخطاب الصهيوني غير المتدين. مفارقة، أليس كذلك؟ دعونا نتذكّر بعض المراجع العربية التي يرد فيها ذكر ليهود، سواء في الجزيرة العربية، أم لاحقاً في الأندلس. لا يقترن هذا الذكر بعرق آخر، بل بأشخاص، من بينهم، ظلوا على دينهم القديم، وإن حصل هذا الاقتران، فالأمر يتعلق بقبائل يمنية، مثلاً، أو يثربية.
تطرح "هآرتس" هذا السؤال مجدّداً. فقبل أيام، تناول عمودها الافتتاحي سؤال الدين والوجود الإسرائيلي، وما إذا كان أحدهما محتاجاً إلى الآخر. ماذا لو كان الواحد لا يؤمن بـ "الوعد الإلهي"؟ هل ينفي هذا "حق" اليهود في "وطن قومي" على أرض فلسطين؟ لواحد مثلي، ولكثيرين غيري، لا يؤمنون بالترابط بين الدين و"الشعب" أو "العرق"، يصعب فهم هذا النقاش، حتى عندما تطرحه جهة "علمانية" إسرائيلية. الفارق بين كلام "هآرتس" والمتدينين اليهود معدوم. ففيما يرى "العلمانيون" الإسرائيليون فلسطين وطناً قام على فكرة الصهيونية وحق "الشعب" اليهودي في "وطن قومي"، لم يكن وطنهم في يوم من الأيام، يرى المتدينون أن "الوعد الإلهي" هو الأساس الذي قامت عليه "دولة الشعب اليهودي". ما الفرق بالنسبة لنا؟ لا فرق. فاحتلال فلسطين مبرّر في الحالتين. وفلسطين هي نفسها في الخطابين: أي ليست أرض الشعب الفلسطيني. لا يريد العلمانيون التركيز على الصبغة الدينية لدولةٍ حظيت باعتراف المجتمع الدولي، وأصبحت عضواً في المحافل الدولية، ولا تجادل قوة عالمية في "حقها" في الوجود. الدولة قامت. وها هي موجودة بكل الصيغ القانونية والواقعية التي تدعمها القوة، فما الحاجة، والحال، إلى "وعد إلهي"؟ ما كانت تحتاجه هذه الدولة لتقوم لم يكن "وعداً إلهياً"، بل إلى وعد بلفور. أي وعد الإمبراطورية البريطانية. وعد القوة. وبهذا وحده، قامت إسرائيل ولا بشيء آخر. سؤال "هآرتس" صحيح بلا جدال: لا ضرورة لوعد إلهي. ولا إلى غطاء ديني خرافي يصعب تقبله إلا من مهووسين دينيين. هذا هو واقع الحال. لكن فيما يواصل الإسرائيليون تطوير "سردهم"، انطلاقاً من واقع حالهم، ينتكس الخطاب العربي حيال فلسطين وإسرائيل إلى مستوى غير مسبوق. صار الخطاب العربي حيال "القضية الفلسطينية" مرتبطاً بتكتيكات دولٍ وأنظمة، ليست على تماسّ مباشر مع إسرائيل، تعمل على دعم "شرعياتها" بعلاقات "تحت الطاولة" مع إسرائيل، وربما لن يطول الوقت، لتكون هذه العلاقات على الطاولة وليس تحتها.