"النهضة" التونسية ومغامرة الحكم الثانية

20 اغسطس 2016
ما بعد مؤتمر النهضة غير ما قبله (ياسين القائدي/الأناضول)
+ الخط -

تغيَّر موقف حركة النهضة بشكل واضح في ما يتعلق بالمشاركة في الحكم في تونس، فبعد أن كانت مقتنعة بمشاركة رمزية على مستوى الحكومة الماضية، باتت تطالب اليوم بتمثيل يعكس نتائج الانتخابات التشريعية (2014)، إلى درجة التلميح بالتهديد بعدم المشاركة في الحكومة إذا لم يتم احترام ذلك.

في هذا المجال، أكد زعيم الحركة راشد الغنوشي، يوم الأحد، أن "الحركة حريصة على أن يكون تمثيلها في الحكومة مناسباً لحجمها، من دون أن يعني ذلك القيام بعملية حسابية مضبوطة، لأن الأحزاب موجودة لتحكم". ويأتي تغيّر استراتيجية الحركة في هذا المجال، بناءً على نتائج المؤتمر العاشر في مايو/أيار الماضي، الذي غيّر فيما يبدو الموازين داخلها، ما انعكس أيضاً على سياساتها كحزب مع شركائها في البرلمان، وفي نظرتها لأسلوب المشاركة في الحكم، ودراسة انعكاساته المترتبة على مستقبل الحركة.

ونوّه الغنوشي إلى أن "نتائج الانتخابات أعطت النداء المرتبة الأولى، والنهضة المرتبة الثانية. بالتالي فإنه ليس من المعقول أن تُمَثّل كحزب في المرتبة العاشرة". لكن هذا الموقف، وهذه التصريحات، تبدو جديدة على الحركة التي يظهر وكأنها بدأت تنصت لصوت قواعدها، التي عبّرت عن غضبها بوضوح في المؤتمرات الجهوية والمحلية التي سبقت المؤتمر العام العاشر. ذلك لأن حزبها لم يكن في الحكم فعلياً، ولم يكن قادراً على التأثير في القرار اليومي الذي يهم حياة الناس، غير أنها تتحمّل في الوقت عينه وزر الفشل الحكومي من ناحية، وأعباء التحالف مع النداء من ناحية أخرى، بحسب القواعد.

ويأتي تأكيد الغنوشي على أن "الأحزاب وُجدت لتحكم"، بمثابة موقف نقدي واضح للنتائج المتواضعة التي حققتها حكومات الكفاءات والمستقلين المتتالية بعد الثورة، وقراءة لأسباب تعطّل مشروع التحالف من ناحية أخرى. لكنه يعكس عزماً واضحاً على تحمّل المسؤولية والاستعداد للمرحلة المقبلة بجرأة كبيرة، تحديداً للانتخابات المحلية، المقررة مبدئياً في 26 مارس/آذار المقبل. وكان رئيس مجلس الشورى الجديد في النهضة، عبد الكريم الهاروني، قد شدّد بوضوح على أن "النهضة لا تبحث عن المحاصصة، لكن يجب مراعاتها كالحزب الأول في البلاد، ولن تقبل إلا بما يليق بها".





وعلى الرغم من أنه جرى تلطيف هذه التصريحات مباشرة، وتأكيد دعم الحركة الكامل لمبادرة رئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي، إلا أن الموقف الجوهري لم يتغير، بل تم تأكيده أكثر من مرة. وخلاصة الموقف أن النهضة لم تعد تقبل بأدوار ثانوية في الحكومة ولم تعد تقتنع بحقيبة أو حقيبتين، في حين أن الأحزاب التي لا تُقارن بها من حيث القوة البرلمانية، كحزب "آفاق تونس" و"الاتحاد الوطني الحر" تشغل أربع وزارات، بينما لم يتمكن "نداء تونس" من العودة إلى المرتبة الأولى، رغم كل الجهود التي بذلها في هذا الاتجاه.

غير أنّ النهضة كانت حريصة في الوقت عينه على احترام نتائج الانتخابات، لا الأغلبية النيابية، على الرغم أن ما حدث في السنة ونصف السنة الماضية، بدّل كثيراً من وضع ما بعد الانتخابات، وغيّر المشهد السياسي والحزبي بشكل واضح.

وعلى الرغم من أنها لم تبدّل موقفها من التحالف كخيار استراتيجي، إلا أن النهضة انتقدت شكل المشاركة في الحكم، وسلبية الموافقة المستمرة على خيارات الائتلاف أو التحالف. واعتبرت أن "الأجدر أن تتحمل المسؤولية كاملة، وأن تربح مع الرابحين وتخسر مع الجماعة، إن خسرت".

في هذا الإطار، تؤكد مصادر من النهضة لـ"العربي الجديد" أن "قيادات الحركة لاحظت لامبالاة قواعدها في دعم خيارات الحكومة، وفقدان التعبئة لمساندة الجهد الحكومي في الجهات"، بعكس المعارضة التي نجحت مرات كثيرة في حشد الشارع ضد قرارات الحكومة، وهو ما سيؤدي في كل الحالات إلى فشل مؤكد وتعطيل متواصل للمشاريع الحكومية، بما قد تكون له نتائج وخيمة على مستقبل التحالف وأحزابه في الاستحقاقات المقبلة.

وقد كانت استراتيجية النهضة في البداية قائمة على عدم الابتعاد عن دائرة الحكم، حتى لا تُقصى من المشهد، ولا تُحاصر بائتلاف يجمع النداء مع اليسار، بل مراقبة الوضع من قريب، والاستفادة من القرب من الإدارة ومن مسالك اتخاذ القرارات وتنفيذها. بذلك يتمّ التدرب واكتساب مزيد من الخبرة في إدارة شؤون الحكم، تجاوزاً لأخطاء مرحلة الترويكا، فضلاً عن عدم التورط كلياً في تجربة الحكم والتفرّغ لإعادة تنظيم الحركة، استعداداً للمؤتمر الحاسم وفضّ قضايا مصيرية، مثل فصل الدعوي عن السياسي.

غير أنّ هذا الخيار لم يعد يكفي، وأثبت محدوديته، على الرغم مما تراكم من تجربة. وتحمّلت النهضة جزءاً مهماً من فشل حكومة الحبيب الصيد، ما قاد إلى اتخاذ قرار بين المشاركة بقوة أو الانسحاب. ما يعني أن النهضة ستدخل مرحلة الحكم الثانية، بعد مرحلة الترويكا التي قادتها.

ولكن هذه الرغبة في تحمّل المسؤولية، ينبغي أن تكون متبوعة بالعودة إلى الإدارة أيضاً، وتعيين الكفاءات الوسطى، التي تشرف فعلياً على إدارة البلاد في كل المستويات، فهل ستسمح الإدارة التونسية بذلك، وهل قبل النداء أو بالأحرى الرئيس السبسي بذلك، وهل هي مرحلة اقتسام الحكم بالفعل؟

وتبدو هذه المسألة بالذات على درجة كبيرة من الصعوبة، بعد أن أثارت مسألة التعيينات في حكومة الصيد مشاكل كبيرة مع أحزاب الائتلاف. وهو ما سيدفع إلى فهم سياسة رئيس الحكومة المكلّف يوسف الشاهد في هذا الاتجاه، وانتظار فهم حقيقة التفاهم بين الغنوشي والسبسي.