"المليار" لرائد المفتاحي: ثنائية التبسيط والنجاح

17 فبراير 2018
من "المليار" لرائد المفتاحي (الملف الصحافي للفيلم)
+ الخط -


يتناول "المليار" (2017)، للمخرج الشاب محمد رائد المفتاحي، حكاية علي البوعار (زبّال متشرّد، يمارس مهنًا صغيرة)، الذي حقّق حلمه، الهادف إلى كشف نفاق خصومه، والحصول على قلب حبيبته، بـ"التخلّي والتحلّي، فالتجلّي". قاعة العرض ممتلئة. المتفرّجون ضحكوا، وخرجوا مبتهجين للنهاية السعيدة. الفيلم كوميدي، موجّه إلى الجمهور. حقّق هدفه، ما فاجأ "جمعية الفن السابع"، التي تقدّس "سينما المؤلّف".

صُوِّر "المليار" (سيناريو: توفيق الحوماني، تمثيل: ربيع القاطي وسانديا تاج الدين، في ثاني ظهور سينمائي لها، بعد "ليالي جهنم" لحميد بناني) في البادية، و"صمد" أكثر من 3 أشهر في قاعاتٍ سينمائية في الدار البيضاء. واضح أين تَشكّل وجدان المتفرّج المغربي. وجدان قروي، يُمكِّن المتفرّج من التعايش مع القلق المتولّد من قحط الفضاء، وقحط المشاعر المتبادلة بين الشخصيات. والقرويون لا يعرفون الدبلوماسية.

على مستوى السرد: القصة بسيطة وواضحة. ليس فيها تعقيدات واختبارات. الأسوأ أن انطلاق الأحداث يرجع إلى الصدفة وحدها. فالبطل موعودٌ بجائزة ضخمة، لم يبذل جهدًا كي يستحقها. في الفيلم حوار حادّ، وموسيقى تصويرية بخلفية شعبية عريقة، كأن أغنية "العلوة"، الشهيرة في المغرب، ستبدأ في كلّ مرة.

على مستوى الموضوع، تطرّق الفيلم إلى قضايا كثيرة: هناك 90 ألف جمعية في المغرب، ينفق مسيّروها على اجتماعاتهم أكثر مما ينفقونه على الجمهور الذي يستهدفونه. أرملة شابة عرضة للاتهامات، وشابة متعلّمة في خدمة شخص أميّ. غير أنّ تطرّق الفيلم إلى قضايا كثيرة كان من دون التعمّق في أيّ منها. في حواراته، جملٌ غير وظيفية، يُهيمن عليها الدعاء. حين لا يجد السيناريست محتوى يقدّمه، يُكثر من الخطاب الهامشي. تتضمّن جُلّ الأفلام المغربية حوارات "اللهم"، وهو دعاء يتعلّمه المغاربة من زيارة الأضرحة، ومنظومة التسوّل حولها.

بطل المليار الموعود ابن الراقصة الشعبية "الشيخة"، لقيط لا يعرف والده، "ابن حرام". في القرية، يعرفون "قلّة أصله"، فيسخرون منه، بينما لو كان في المدينة، لتخفّى حتى يبتكر لنفسه سلالة مشرِّفة. فقيه القرية لا يرحم "ابن الحرام"، لكن حين تصير لديه نقود يعتبره وليّاً من أولياء الله. تحلو السخرية من اللقطاء الفقراء فقط، وأشهر ولي مغربي صالح متشرّد هو عبد الرحمن المجذوب، الذي كان يُلقي الأطفالُ الحجارةَ عليه عند مروره أمامهم.

علي البوعار، شاب وسخ طيب، "زهد في المال والجاه" (وسخ الدنيا). سَخيٌّ في تناقض تام مع واقعه المادي. يساعد الآخرين، وتحاول النساء استمالته، فهنّ معجبات بجسده، وتتنافسن على اكتساب رضاه. بطل مستقيم، بينما المحيطون به منافقون وطمّاعون. يعاني فائض "الدروشة"، بينما البطل السينمائي لا يوكل أمره إلى أحد، بل يضرب خصمه.

لا يمكن تجاهل خبرة الثقافة الصوفية للسيناريست وعمقها، خاصة أن اللقيط الذي يعيش في البقايا يبدو كامتدادٍ لشخصية عبد الرحمن المجذوب، الطيّب المشرّد السخيّ الفقير. كيف يكون سخيًّا وهو فقير؟ تلك معجزة المتصوّف المغربي، التي يتقبّلها القلب، وينكرها العقل.



اشتغل توفيق الحوماني، طويلاً، على شخصية عبد الرحمن المجذوب، في مسلسل تلفزيوني طويل. يبدو أن ذلك ساعده في رسم شخصية المشرّد علي البوعار، الذي يُنسب إلى أمه. هذا رسم موجود في ذهنية الجمهور، الذي يفهم الشخصية البائسة، ويتعاطف معها. في كلّ حي مغربي مجذوبٌ يشتمه الناس، ويستخدمونه، ويتصدّقون عليه، ليغسلوا سيئاتهم.

للفيلم سيرة مختلفة، لأن المخرج ووالده المنتج قادمان من خارج المجال. هما فاجآ السينمائيين المحترفين بفيلمٍ حصل على دعم مالي من "المركز السينمائي المغربي"، وصَمَد في شباك التذاكر. تزامن ذلك مع حملة ضده، باعتباره سطحيًّا وتافهًا، بحسب نقاد لمْ يشاهدوه. هكذا يُسجِّل الحقل السينمائي تضامنًا ميكانيكيًا ضد الوافد الجديد.

يقول المنتج عبد السلام المفتاحي: "الحقل السينمائي المغربي لا يقبل الوافد الجديد بسهولة، بينما يرحّب ـ بشدّة ـ بالصديق المألوف. الدليل؟ أحيانًا، يقول أحدهم (المألوف) إنه سيصوِّر فيلمًا، فتُجرى معه حوارات مُسبقة. بينما الوافد الجديد يُصوِّر فيلمًا، ثم يعرضه في القاعات، لكن ما من وسيلة إعلامية تحاوره. عندما يلتقي الوافد بالراسخين في الميدان، يسألونه: ماذا فعلت كي يصير لك فيلم في القاعات؟".

يضيف المفتاحي: "أخلاق قبائل السينما ليست كأخلاق قبائل الشعر. كانت القبيلة، قديمًا، إذا ظهر فيها شاعرٌ، تنحر النياق، وتُقيم الاحتفال. كان يومٌ يأتي فيه الرجال نساءهم، كما ذكر ابن سلام الجمحي. في السينما، ظهور فاعل جديد أشبه بدخوله حديقة سرية. يحسبه القدامى وافدًا جديدًا سيُسبِّب نقصًا في حصّتهم من الكعكة. من هنا، تنبع تلك الحرب الضروس ضده. مررنا في هذه التجربة. نحن بصدد إعداد الفيلم الموالي، بدلاً من الدخول في الجدل". جدد وقدامى؟ يبدو أن للحقل السينمائي المغربي بنية صوفية أيضًا، إذْ لا بُدّ للمخرج المُريد من مُخرج شيخ، يبصق في يده لتنتقل البركة السينمائية، وإلاّ اعتُبر طفيليًا.
المساهمون