"المركز العربي" و"معجم الدوحة": العربية وأسئلة القلق الحضاري

28 ديسمبر 2015
نجا المهداوي / تونس
+ الخط -

رغم إمكانياتها غير المنكَرة، تظلّ اللغة العربية تعاني من التأخّر على مستويات عدّة، لعلّ أبرزها القدرة على احتضان المصطلحات والمفاهيم في العلوم والمعارف المختلفة وتحدي الحوسبة.

يمثّل الخروج من هذا الوضع رهاناً طالما اشتغل عليه المختصّون في علوم اللغة واللسانيات، وهو أحد محاور الندوة العلمية التي أقيمت يومي 26 و27 كانون الأول/ ديسمبر في الدوحة، بدعوة من "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" والمشروع الذي أطلقه منذ 2013، "معجم الدوحة التاريخي للغة العربية"؛ حيث ناقش باحثون ولغويّون أوضاع العربية الراهنة، على هامش الاحتفاء بيومها العالمي.

خلال المحاضرة الافتتاحية، التي ألقاها أستاذ اللسانيات والمعجمية العربية في "معهد الدوحة للدراسات العليا"، محمد بلبول، أوضح الأخير موقع اللغة العربية اليوم، ضمن خارطة اللغات العالمية، واضعاً معايير في تصنيف اللغات؛ إذ تقع العربية اليوم في مستوى ثان يُسمَّى بـ "عالية المركزية" مع الإسبانية والفرنسية ولغات أخرى، بعد الإنجليزية (فائقة المركزية).

على عكس النظرة الرائجة، يرى بلبول أن اللغة العربية تحرز مكانة جيدة على المستوى العالمي، رغم بعض النقائص، إذ يبيّن أن المقارنات تقوم على عدد من المؤشّرات؛ مثل عدد المستخدمين، والانتشار كلغة ثانية، وهو العامل الذي يُعدّ أهم عوامل تحديد عالمية لغة ما.

هنا، يقدّم الباحث إحصائيات تشير إلى أن عدد المتكلّمين بالعربية كلغة ثانية يبلغ سبعة ملايين، أي ما نسبته 3.4% من مجموع من يتحدّثون لغة ثانية، وهو رقم ضعيف نسبياً، لكنه في تطوّر.

من جهة أخرى، بيّن بلبول من خلال مؤشّرات الارتباط بمجتمع الشبكة، أن العربية اليوم في وضع غير مريح، لأن البيانات العلمية المُتاحة على الشبكة قليلة والفجوة الرقمية بين "العالم الأول" والعالم العربي ما تزال عميقة.

في ورقة ثانية، أكد رئيس "معهد الدوحة للدراسات العليا" بالوكالة، ياسر سليمان، أن الحديث حول اللغة العربية يتّخذ وجهاً أيديولوجياً، إذ يتمظهر أساساً من خلال طغيان تعابير "الأزمة" و"الخطر" و"التحديات" و"الكفاح" في الكتابات المرتبطة بالعربية، وحتى لدى المؤلّفين والباحثين الذين تسيطر هذه المعاني على مؤلّفاتهم.

يرى سلمان أن ذلك "يندرج ضمن قلق على هويتنا العامّة، لأن العربية ترمز إلى هويتنا"، وخلص إلى أن معالجة هذا القلق تمر عبر معالجة المشكلة الأكبر المرتبطة بالهوية، أي "أن نعمل من أجل أن تصبح الأمة العربية قوية وفاعلة، وعندها سينتهي القلق اللغوي".

في ورقة تحت عنوان "اللغة العربية والمشهد اللغوي الكوني"، أوضح حسين السوداني، أحد المساهمين في "معجم الدوحة"، أن المشهد اللغوي الكوني يشهد تحوّلات كبيرة؛ إذ تفيد دراسات أن العالم يفقد واحدة من لغاته الـ 5000 كل 14 يوماً، وأن هناك نحو 600 لغة قد أخذت طريقها التدريجي نحو الانقراض، ما جعل الأمم المتّحدة تبادر من أجل وقف النزيف.

يشير السوداني إلى أن العربية لا تزال بعيدة عن خطر الاندثار، لكنه يشدّد على ضرورة عدم ترك مستقبلها لتحوّلات خارجة عن نطاقها أو الاتكال على أن "للسان العربي رباً يحميه"، وإنما يجب وضع سياسات لغوية كفيلة بأن تجعل العربية إحدى أدوات القوة الناعمة للبلدان العربية.

وفي محاضرة بعنوان "أية لغة عربية نريد أن نحيا بها؟"، قدم الباحث محمد الشيباني مقاربات في سبل تمكين العربية من توسيع استخدامها وتجويده في مختلف مناحي الحياة. يقدّم الشيباني بعد ذلك مقترحات لسياسة لغوية تلائم الحالة اللغوية الراهنة.

في ورقته، تناول أحمد الجنابي "واقع تعليم العربية للناطقين بها"، حيث يشير إلى مفارقة تقول بأن واقع تعليم اللغة العربية لغير الناطقين أحسن حالاً من تعليمها للناطقين بها، من حيث طرق التدريس ومناهج البحث والدراسة، والمصنفات المؤلفة والتوصيفات المقررة. ومن خلال هذه المقاربة يفتح الجنابي على مظاهر التوتر بين الفصحى والعامية حيث يعتبر أن "بينهما تواشج وترابط في الأصول، ولكن بينهما في واقع الحال خصومات ومكائد".

العلاقة بين العامية والفصحى، كان موضوع ورقة الباحث عبد الرحيم الرحموني إذ تناول هذا الإشكال من خلال نماذج ونصوص من التاريخ اللغوي للعربية، وواقعها الاجتماعي، مشيراً إلى ما تستند إليه دعوات الفصل بين العامية والفصحى، وفوائد التلاقح بينها حيث يعتبر أن كلاهما يمدّ الآخر بالجديد من الألفاظ والتراكيب ليستمر في النمو الطبيعي دون حاجة إلى الاقتراض من لغة أجنبية أخرى.

من زاوية أخرى، قدّم الباحث عبد المنعم الغرياني ورقة حول "مفارقات تعليم العربية في أوروبا: فرنسا نموذجاً". فمن خلال دراسة ميدانية، حاول من خلالها حصر المواقف من تدريس العربية في فرنسا، بيّن مستويات النظرة إلى اللغة العربية كلغة حية في الغرب، مقدماً قراءة أيضاً بخصوص علاقة ذوي الأصول العربية بلغتهم الأم ومبيناً مساحة الآراء غير المنسجمة التي يتبنّونها تجاه القضية اللغوية.

على مستوى آخر، قدّم محمد عطية محاضرة عامة حول "صعوبة المعالجة الحاسوبية للغات الطبيعية"، حيث حاول تبسيط وتلخيص ماذا تعني المعالجة الحاسوبية للغة عموماً، ولماذا أمكن السيطرة بالكامل على معالجة لغات برمجة الحواسيب، بينما يصعب ذلك حتى الآن مع اللغات الطبيعية. حاول عطية تبيان مساحات اللغات الطبيعية الأكثر تطويعاً للحوسبة في مقابل المساحات الأكثر استعصاءً، ليختم بتطبيقات على اللغة العربية.

وفي كلمته، تحدّث اللغوي الفلسطيني إلياس عطا الله عن "نكبة اللسان"، حيث تطرّق إلى وضع العربية في فلسطين في ظل اصطدامه بسياسات الاحتلال الإسرائيلي، فيهتم بآثار ذلك في عربيّة كتب التّدريس الرّسميّة للطّلبة العرب في الدّاخل الفلسطينيّ، حيث يلاحظ وجود إغراق في اللحن والعبرنة، معتبراً أن "نكبة اللسان" إحدى أدوات "نكبة الإنسان".

شمل برنامج الندوة، في مجمله، 23 ورقة بحثية، قدّمت مقاربات حول تأهيل العربية لاستعمالها في بناء العلوم والمعارف ونقلها وتداولها، إضافة إلى نماذج من أعمال حوسبة العربية وتطوير محتواها في الإنترنت من منظور الاستثمار في اللغة والاقتصاد المؤسَّس على المعرفة. مقاربات تفتح في مجملها على أسئلة الهوية والمعاصرة والتحرّر، بما يتيح لنا أن نقول إن اللغة أيضاً استعارة ومرآة للوجود العربي اليوم.



اقرأ أيضاً: عشرون قرناً من اللغة العربية في مشروع نهضوي

المساهمون