لوهلة أولى، يبدو "المحظيّة" (2018) لليوناني يورغوس لانتيموس ـ المُرشَّح لـ9 جوائز "أوسكار"، والذي فاز بواحدة منها فقط في فئة أفضل ممثلة، نالتها أوليفيا كولمان (24 فبراير/ شباط 2019) ـ أنه لا يشبه عوالم مخرجه، الذي اشتهر ـ في أفلامه الـ5 الأخيرة (آخرها "قتل الغزال المقدّس"، 2017) ـ بعوالم غريبة، وأفكار كافكاوية النزعة (نسبة إلى الروائي فرانتز كافكا)، وصُوَر لا تنتمي إلى الواقع. على عكس هذا كلّه، يأتي "المحظيّة": عمل تاريخي، بأزياء وديكورات خاصّة بفترة زمنية محددة، ودراما نسائية، وقصّة أقل غرابة من أي عمل آخر له.
لكن هذا كلّه قشرة خارجية فقط، لأن باطنه يجعله منتميًا تمامًا إلى سينما لانتيموس، فكرًا وأسلوبًا، وخلق عوالم.
فكريًا، انشغل يورغوس لانتيموس دائمًا بفكرة السلطة، وعلاقات الأفراد بعضهم ببعض في عالمٍ ضاغط ومنغلق، وبالنزعات القاسية والسوداوية في النفس البشرية كمحاولةِ "بقاء". جديده، رغم إطاره المختلف، يدور في قلب تلك الأفكار، تحديدًا. يأخذ مطلع القرن الـ18 زمنًا لأحداثه، التي تدور داخل قصر ملكة إنكلترا آنّ (كولمان)، الضعيفة والمتهاوية نفسيًا وجسديًا رغم ما تملكه من سلطة. هناك صراع دائر بين صديقتها وإحدى وصيفاتها حول من ستكون المحظيّة لديها، ما يُمكّنها من السيطرة على الملكة، وعلى المملكة كلّها أيضًا. سارة (رايتشل وايز)، صديقة وعشيقة سرية، ومقرّبة منها منذ أعوام طويلة، وآبيغل (إيما ستون)، فتاة تبدو بريئة، إذْ تبدأ حياتها في القصر خادمةً، لكنها تستخدم ذكاءها ومَكْرها في خداع الملكة بهدف التقرّب منها، والارتقاء بهدوء إلى المراتب العليا، وسط صراع لا ينتهي بينها وبين سارة.
من منظور السلطة والنفس البشرية المعقّدة، ينتمي "المحظيّة" إلى هواجس مخرجه وأفكاره.
أسلوبيًا وبصريًا، الأمر أوضح. فبعيدًا عن مسألة الأزياء والديكورات، اهتمّ لانتيموس دائمًا بالمساحات، مُصوّرًا أبطاله فيها. يستعين بالزوايا الغريبة (غير المريحة) للتأكيد على رؤيته، مع الاستخدام المفرط للموسيقى الكلاسيكية بشكل غير معتاد. هذه الأمور كلّها موجودة هنا بشكل واضح، كما تمكن المقاربة بين قصر "جراد البحر" (The Lobster) ـ المُنتج عام 2015، وهو فيلم مستقبليّ تدور تفاصيل حكايته في عالم يتحوّل العازب/ العزباء فيه إلى حيوان، إنْ لم يجد شريكًا له ـ والقصر التاريخي للملكة آنّ، عبر وقائع وتفاصيل يُفترض بها أن تنتمي إلى الواقع. مقاربة تكشف تشابهًا بصريًا للغاية بين المكانين، وفي طريقة تصوير الصراع والشخصيات معًا فيهما.
الفرق الأكبر بين "المحظيّة" وأفلامه الأخرى، يكمن في أنها المرة الأولى التي يُتاح فيها للأداء التمثيلي أن يحصل على مساحة مهمّة للتعبير عن الحكاية. فالبطلات هنّ روح الفيلم، وكل واحدة منهنّ تؤدّي شخصية معقّدة ومختلفة: الملكة آنّ هشّة وضعيفة، ردود أفعالها هستيرية أحيانًا، ولديها عطش داخلي لامتناه إلى نيل الاهتمام والحنان. هذا الدمج بين امتلاك السلطة والهشاشة الشديدة، ما يعكس تناقضًا بين الحالتين، جعل أداء كولمان مؤثّرًا، فاستحقت جائزة الـ"أوسكار" تلك، في ظلّ مباراة تمثيلية هي الفضلى في العام الفائت مع زميلتيها رايتشل وايز، الصارمة والحادّة والقوية، التي تنتقل ببراعة من الثقة المفرطة إلى الدفاع عما تملكه؛ وإيما ستون المنتقلة بشخصيتها إلى خانة مختلفة تمامًا، بعيدًا عن صورتها النمطية كفتاة بريئة وحالمة، وهذه صورة لها فضل في حصولها على "أوسكار" أفضل ممثلة عن دورها في "لا لا لاند" (2016) لداميان شازيل، في نسخة عام 2017. لكنها في "المحظيّة" تقترب من صورة الشيطان البارع، الذي يستخدم ملامحه لتحقيق مساعيه وتنفيذ خططه الماكرة للغاية، وهذا في فيلمٍ مُفاجئ ومختلف، يُعتبر أحد أفضل أفلام العام السينمائي السابق.