29 سبتمبر 2024
"الكنيسة والدكتاتور"
بعد أن ذاع لقاء لبطريرك أنطاكيا وسائر المشرق للروم الكاثوليك السابق، غريغوريوس لحام، مع موقع فاشيٍّ فرنسيٍّ، تطرّق فيه إلى الملف السوري، وحفِل بجرعةٍ كبيرةٍ من مُجانبة الدور الأخلاقي النظري لرجال الدين، والذي لا يمكن تبريره، حتى بالخوف على "أقليةٍ" ساهمت الديكتاتوريات والاحتلالات في هروبها من مهد ديانتها، صار ضرورياً الاهتمام بتجارب أخرى، وكل تشابه في الأحداث، كما في التحليل، محمودٌ وربما مقصود.
في عام 1936، تعرّضت الجمهورية الإسبانية الفتية لاعتداءٍ من الجيش، قاده الجنرال فرانشيسكو فرانكو (1892 ـ 1975). وسرعان ما اعتبرت الكنيسة الكاثوليكية في البلاد أن هذا الضابط القريب للفكر الفاشي والمدرسة النازية هو "المنقذ". وكان انقلاب الجيش فرصةً ثمينة للكنيسة التي كانت تعتبر الجمهوريين أعداءها، ووجدت في فرانكو "جداراً" ضد الجمهوريين. فبعد عقودٍ من سيطرة الكنيسة، المباشرة وغير المباشرة، على المشهد العام الإسباني، وجد محافظو الكنيسة أنهم يفقدون سلطتهم عبر الهيمنة العلمانية للتوجهات الجمهورية التي عارضت كل أنواع الاستبداد، بما فيه الديني.
وقد ترسّخ الدعم الرسمي من الكهنوت الإسباني للفاشية الفرانكية في سطور رسالة مشتركة للمطارنة الإسبان في الأول من يوليو/ تموز 1937، والتي من خلالها منحوا للحركة العسكرية الدموية شرعية دينية. وكانت الميول الدينية موجودةً بحدّة لدى العصابات الفرانكية، كما "الكتائب" المرتبطة بها، وخصوصاً بعد خيبةٍ دامت ست سنوات، في ظل ديمقراطية علمانية التوجه.
ومن المجحف أن يُترك للكنيسة الإسبانية وحدها مسؤولية دعم الديكتاتورية، فقد عبّر الفاتيكان،
وكان حذراً في بداية الانقلاب، عن دعمه الصريح لاحقاً للجنرال فرانكو. حتى أن البابا صرّح يوم 16 إبريل/ نيسان 1939، وبعد انتصار الجيش في إبادة الجمهوريين ونهاية الحرب الإسبانية، إن إسبانيا الفرانكية هي "الجزء المختار من الله". ووصل الأمر بالفاتيكان إلى تنظيم احتفال ديني في روما، بمناسبة هذا "الانتصار". وقد اعتبر المحافظون في الكنيسة عموماً أن معركة فرانكو ضد الجمهوريين هي "الحملة الصليبية" في الأزمنة الحديثة، وحيث حلّ الجمهوريون مكان الوحش، وحلّت الدبابة مكان السيف الذي يجزّ عنقه.
انتهت الحرب، وتمت إعادة تديين البلاد، فالتعليم تُرك لرجال الدين، كما تم إقحام الكنيسة في إدارة الشؤون العامة، فدخل كثيرون من أعضائها المدنيين في الحكومات الفرانكية المتعاقبة. ولقد اعتبرت الكنيسة، في الذكرى 25 لانتصار الجيش على الديمقراطية، بأن فرانكو هو "حامي الكنيسة وفارس المسيح". وحتى بعد إحلال الديمقراطية في إسبانيا سنة 1975 بموت فرانكو، وبعد مرور عقود على نهاية الحقبة الديكتاتورية، إلا أن الكنيسة لم تعترف بعد بدورها السلبي. وكما يقول كبير مؤرخي الحرب الأهلية، جوليان كازانوفا، فهي تدافع عن ذاكرة المنتصر المستبد. ويضيف كازانوفا قائلاً إن الكنيسة لم تُدن، حتى الآن، حقبة الديكتاتورية وانقلاب فرانكو العسكري سنة 1936، ولم تطلب العفو ألبتة على ما اقترفته من شراكةٍ مع المستبد في أثناء الحرب الأهلية وبعد انتهائها.
في الأرجنتين، كانت الكنيسة مصطفة أيضا إلى جانب الحكم العسكري الدموي (1976 ـ 1983)، وارتبطت معه بمصالح متعدّدة. مع ذلك، ولتعقيدات التركيبة الكهنوتية في هذه البلاد، وقع رجالاتٌ من الكنيسة أيضا ضحايا للديكتاتورية، ولم تنبس الكنيسة ببنت شفة. وبعد سقوط الديكتاتورية بفترة طويلة، حوكم أحد الكهنة، لمسؤوليته إبّانها عن سبع جرائم قتل و31 حالة تعذيب و42 اختطافا. كما أدينت الكنيسة عن صمتها على اختطاف الطغمة العسكرية راهبتين فرنسيتين، وتعذيبهما وقتلهما، وكانتا تنشطان إنسانياً لدى عائلات المختفين قسرياً. ويُعاب على الكنيسة عدم قيامها بأية مراجعة تخصّ هذه الفترة بعد نهايتها. والكنيسة التي لم تتصالح مع ماضيها لا تتوقف عن الطلب من الأرجنتينيين أن يتصالحوا فيما بينهم. ومن أهم ما كتب عن تلكم المرحلة ما خطّه رجل دين دان، من خلاله، شراكةً وصمت الكنيسة إبّان الديكتاتورية، وعنونه "الكنيسة والديكتاتور". ويعتبر وجود بابا من الأرجنتين حالياً على رأس الكنيسة الكاثوليكية، مهتم أكثر بحقوق الضعفاء من دعم الديكتاتوريات، مؤشرا إيجابيا لعملية المراجعة التي بدأت على خجل لدور الكنيسة الأرجنتينية.
وفي تشيلي، دعمت البورجوازية الكاثوليكية انقلاب الجيش سنة 1973 بقيادة أوغستو بينوشيه (1915ـ 2006) على الحكم الديمقراطي للرئيس سلفادور الليندي (1908 ـ 1973).
لكن هذا التوجه لم يكن الغالب على الكهنوت المسيحي في هذا البلد، وكان المشهد أكثر تعقيداً مما كانت عليه الأحوال في إسبانيا وفي الأرجنتين. ويُشار إلى وجود "يسار" كاثوليكي أقلوي، ولكنه فاعل، في الساحة التشيلية، لم يكن له وجود ألبتة في الأمثلة السابقة. ولقد أظهر هذا الجناح دعماً واضحاً للديمقراطية، وعبّر عن تضامنه مع الآمال التي حملتها ديمقراطية الليندي. سرعان ما تم إسكات هذا التوجه مع حلول الديكتاتورية، وبروز دور الجناح اليميني في الكنيسة الذي منح بينوشيه شرعية دينية، وحصل منه بالتالي على عطاءاتٍ سمحت له بتوسيع السيطرة في المجتمع، مع اضمحلال دور الجناح التقدمي في الكنيسة. وفي هذا، يمكن أن يُطرح السؤال الأزلي: هل كان موقف الكنيسة ناجما عن الوصولية أم عن الجبن؟
في البرازيل، أقرّت الكنيسة أخيراً، بجرأة لافتة، بأن بعضاً من رموزها، قد أيدوا الحكم العسكري الذي دام بين عامي 1964 و1985، بحجة مواجهة الماركسية، وبأنها كانت عاجزةً عن التشبث بقيمها الأخلاقية، خصوصاً أمام الانتهاكات الوحشية لحقوق البشر. وقد عنونت الكنيسة هذه الفترة الأسوأ في تاريخ البرازيل، بمرحلة "الألم والدموع"، واعتبرت أن التحول الديمقراطي لم يكن ليتم إلا بفضل الذين آمنوا وناضلوا من أجل الدمقرطة.
كونياً، وليس فقط في العالم الاسلامي، فإن أية محاولة لإحقاق العدالة، ولترسيخ مفهوم الحرية، ولمعرفة الحقيقة، يجب أن تمر عبر معالجة حقيقيةٍ، وناقدة لما يمكن تسميتها "المسألة الدينية" بعيداً عن القداسة، وقريباً من روح القديسين وأخلاقهم ومبادئهم.
في عام 1936، تعرّضت الجمهورية الإسبانية الفتية لاعتداءٍ من الجيش، قاده الجنرال فرانشيسكو فرانكو (1892 ـ 1975). وسرعان ما اعتبرت الكنيسة الكاثوليكية في البلاد أن هذا الضابط القريب للفكر الفاشي والمدرسة النازية هو "المنقذ". وكان انقلاب الجيش فرصةً ثمينة للكنيسة التي كانت تعتبر الجمهوريين أعداءها، ووجدت في فرانكو "جداراً" ضد الجمهوريين. فبعد عقودٍ من سيطرة الكنيسة، المباشرة وغير المباشرة، على المشهد العام الإسباني، وجد محافظو الكنيسة أنهم يفقدون سلطتهم عبر الهيمنة العلمانية للتوجهات الجمهورية التي عارضت كل أنواع الاستبداد، بما فيه الديني.
وقد ترسّخ الدعم الرسمي من الكهنوت الإسباني للفاشية الفرانكية في سطور رسالة مشتركة للمطارنة الإسبان في الأول من يوليو/ تموز 1937، والتي من خلالها منحوا للحركة العسكرية الدموية شرعية دينية. وكانت الميول الدينية موجودةً بحدّة لدى العصابات الفرانكية، كما "الكتائب" المرتبطة بها، وخصوصاً بعد خيبةٍ دامت ست سنوات، في ظل ديمقراطية علمانية التوجه.
ومن المجحف أن يُترك للكنيسة الإسبانية وحدها مسؤولية دعم الديكتاتورية، فقد عبّر الفاتيكان،
انتهت الحرب، وتمت إعادة تديين البلاد، فالتعليم تُرك لرجال الدين، كما تم إقحام الكنيسة في إدارة الشؤون العامة، فدخل كثيرون من أعضائها المدنيين في الحكومات الفرانكية المتعاقبة. ولقد اعتبرت الكنيسة، في الذكرى 25 لانتصار الجيش على الديمقراطية، بأن فرانكو هو "حامي الكنيسة وفارس المسيح". وحتى بعد إحلال الديمقراطية في إسبانيا سنة 1975 بموت فرانكو، وبعد مرور عقود على نهاية الحقبة الديكتاتورية، إلا أن الكنيسة لم تعترف بعد بدورها السلبي. وكما يقول كبير مؤرخي الحرب الأهلية، جوليان كازانوفا، فهي تدافع عن ذاكرة المنتصر المستبد. ويضيف كازانوفا قائلاً إن الكنيسة لم تُدن، حتى الآن، حقبة الديكتاتورية وانقلاب فرانكو العسكري سنة 1936، ولم تطلب العفو ألبتة على ما اقترفته من شراكةٍ مع المستبد في أثناء الحرب الأهلية وبعد انتهائها.
في الأرجنتين، كانت الكنيسة مصطفة أيضا إلى جانب الحكم العسكري الدموي (1976 ـ 1983)، وارتبطت معه بمصالح متعدّدة. مع ذلك، ولتعقيدات التركيبة الكهنوتية في هذه البلاد، وقع رجالاتٌ من الكنيسة أيضا ضحايا للديكتاتورية، ولم تنبس الكنيسة ببنت شفة. وبعد سقوط الديكتاتورية بفترة طويلة، حوكم أحد الكهنة، لمسؤوليته إبّانها عن سبع جرائم قتل و31 حالة تعذيب و42 اختطافا. كما أدينت الكنيسة عن صمتها على اختطاف الطغمة العسكرية راهبتين فرنسيتين، وتعذيبهما وقتلهما، وكانتا تنشطان إنسانياً لدى عائلات المختفين قسرياً. ويُعاب على الكنيسة عدم قيامها بأية مراجعة تخصّ هذه الفترة بعد نهايتها. والكنيسة التي لم تتصالح مع ماضيها لا تتوقف عن الطلب من الأرجنتينيين أن يتصالحوا فيما بينهم. ومن أهم ما كتب عن تلكم المرحلة ما خطّه رجل دين دان، من خلاله، شراكةً وصمت الكنيسة إبّان الديكتاتورية، وعنونه "الكنيسة والديكتاتور". ويعتبر وجود بابا من الأرجنتين حالياً على رأس الكنيسة الكاثوليكية، مهتم أكثر بحقوق الضعفاء من دعم الديكتاتوريات، مؤشرا إيجابيا لعملية المراجعة التي بدأت على خجل لدور الكنيسة الأرجنتينية.
وفي تشيلي، دعمت البورجوازية الكاثوليكية انقلاب الجيش سنة 1973 بقيادة أوغستو بينوشيه (1915ـ 2006) على الحكم الديمقراطي للرئيس سلفادور الليندي (1908 ـ 1973).
في البرازيل، أقرّت الكنيسة أخيراً، بجرأة لافتة، بأن بعضاً من رموزها، قد أيدوا الحكم العسكري الذي دام بين عامي 1964 و1985، بحجة مواجهة الماركسية، وبأنها كانت عاجزةً عن التشبث بقيمها الأخلاقية، خصوصاً أمام الانتهاكات الوحشية لحقوق البشر. وقد عنونت الكنيسة هذه الفترة الأسوأ في تاريخ البرازيل، بمرحلة "الألم والدموع"، واعتبرت أن التحول الديمقراطي لم يكن ليتم إلا بفضل الذين آمنوا وناضلوا من أجل الدمقرطة.
كونياً، وليس فقط في العالم الاسلامي، فإن أية محاولة لإحقاق العدالة، ولترسيخ مفهوم الحرية، ولمعرفة الحقيقة، يجب أن تمر عبر معالجة حقيقيةٍ، وناقدة لما يمكن تسميتها "المسألة الدينية" بعيداً عن القداسة، وقريباً من روح القديسين وأخلاقهم ومبادئهم.