تسلك هذه العوائل طرقاً محفوفة بالمخاطر وسط ساحات القتال والقصف المتبادل للقوات الأمنية العراقية وعناصر تنظيم "داعش" ، حيث تواصل القوات العراقية هجومها من ثلاثة محاور لاستعادة السيطرة على أحياء الشفاء والصحة والزنجيلي لتضييق الخناق على عناصر التنظيم المتحصنين بشكل جيد في المدينة القديمة، والتي ستمثل آخر ساحات المواجهة قبل أن توشك القوات الأمنية العراقية على إعلان سيطرتها الكاملة على مدينة الموصل خلال الأيام القادمة.
وما يلفت الأنظار بين جموع العوائل النازحة الذين كانت ترقبهم أعين الصحافيين وكاميراتهم من بعيد وهم يخرجون من بين أزقة منطقة الزنجيلي، أمّ صلاح؛ تلك المرأة الموصلية التي تبلغ من العمر نحو ستين عاما، حيث كانت تصرخ بأعلى صوتها بشكل هستيري وتركض مع ابنها الذي يحمل طفلا رضيعا يتنفس بصعوبة ويحاول التشبث بالحياة بعد أن فقد وعيه بسبب الجوع ودرجات الحرارة المرتفعة. وما إن وصل إلى بر الأمان حتى أسعفه بعض الأشخاص بقليل من الماء البارد، الذي أعاد الوعي لطفلهم الوحيد والذي يدعى عثمان، لتنطلق بعدها صرخات أم صلاح ممزوجة بمشاعر الحزن على فقد أحد أبنائها بقصف منزلهم في حي الزنجيلي والفرح بعودة حفيدها إلى الحياة، حيث كانت تنظر إلى وجوه الواقفين وتصرخ بأعلى صوتها "عماد مات وعثمان حي"، مكررة هذه العبارة أمام الواقفين وعناصر الجيش والشرطة العراقية عشرات المرات وهي تخر ساجدة إلى الأرض عدة مرات.
فقدت أم صلاح عقلها وجنّ جنونها من هول ما رأت من مذابح تعرضوا لها في حي الزنجيلي، ولم يحتمل عقلها مشهد ابنها عماد الذي حولته قذيفة مدفعية إلى أشلاء في باحة منزلهم، ولا مشاهد الجثث التي كانت ملقاة في طرقات منطقتهم وتحت أنقاض منازل الجيران المدمرة.
أم صلاح وعائلتها هي واحدة من آلاف الأسر التي نزحت منذ بداية الهجوم على آخر أربع مناطق لا تزال تحت سيطرة تنظيم "داعش" في القسم الغربي من مدينة الموصل، بينما لا تزال أكثر من 200 ألف أسرة عالقة حتى الآن في أحياء الشفاء والمدينة القديمة وأجزاء من حي الزنجيلي، وذلك بحسب مسؤولين عراقيين ومصادر محلية.
وبدت على العوائل الخارجة من حي الزنجيلي بشكل جلي آثار الحصار العسكري الخانق الذي تسبب بمجاعة كبيرة أثرت على أجسادهم التي أصابها الهزال. كما رصد "العربي الجديد" تعرض مئات المدنيين لإصابات بليغة بسبب القصف والاشتباكات العنيفة التي تعرضت لها مناطقهم في الآونة الأخيرة، وقد تراوحت هذه الإصابات ما بين حالات بتر للأطراف العليا والسفلى أو إصابات خطيرة في أجزاء أخرى من الجسم.
وبين فترة وأخرى كانت تأتي إحدى عربات التابعة لقوات الشرطة المحلية من عمق منطقة الزنجيلي، حاملة في داخلها عددا من المصابين من المدنيين بعد أن قامت عناصر الشرطة الاتحادية بإخلائهم من مناطق الاشتباكات في حي الزنجيلي.
ويقول الجندي محمد عبد الجواد الذي كان يهم للعودة إلى حي الزنجيلي لإخلاء المزيد من الجرحى لـ"العربي الجديد"، "قمنا بنقل عشرات المدنيين الجرحى منذ ساعات الصباح الأولى، كما قمنا بانتشال جثث بعض المدنيين الذين قتلهم قناصو تنظيم (داعش) خلال محاولتهم الخروج من مناطق سيطرتها في الزنجيلي".
ولدى استفسار "العربي الجديد" عن انعدام الطواقم الطبية والعربات المخصصة لهذا الغرض، أجاب الجندي أن "القادة العسكريين لا يسمحون بدخول أي أحد إلى مناطق الاشتباكات من الطواقم الطبية المدنية أو سيارات الإسعاف، إلا بعد نهاية المعارك بسبب الخوف من استهدافهم من طيران التحالف الدولي الذي يقوم بقصف كل مركبة غير عسكرية تتحرك في قاطع العمليات دون تردد ".
ويقول النازح ياسر الجبوري الذي خرج للتو مع أفراد عائلته من حي الزنجيلي لـ"العربي الجديد"، "إننا كنا على وشك الموت إما بالقصف أو الجوع"، مضيفا "قد أجبرنا القصف والاشتباكات على المكوث في قبو المنزل منذ أسبوع دون طعام وشراب وكنا نأكل الأعشاب القليلة التي كانت تنبت في حديقة المنزل وأوراق الشجر، ولقد توفي أحد أطفالي الصغار بسبب نقص التغذية ودفنته في حديقة المنزل".
وتابع "لقد قتل مئات المدنيين في الزنجيلي بسبب القصف الذي شنته قوات الجيش العراقي والطائرات الأميركية وقمنا بدفن البعض منهم في حدائق المنازل وحديقة أحد مساجد المنطقة، بينما لم نتمكن من انتشال جثث كثيرة بقيت عالقة تحت ركام المنازل المدمرة بعضها كانت بلا رأس وبلا أطراف".