13 نوفمبر 2024
"العدل والإحسان" والمنزلة بين المنزلتين
أثار حديث لمحمد عبادي، الأمين العام لجماعة العدل والإحسان (أكبر جماعة إسلامية في المغرب)، جدلاً كثيراً بين رواد المواقع الاجتماعية من المغاربة. وقد بثته الجماعة في فيديو على الإنترنت، وهو عن الأسس الشرعية لمفهوم الخلافة عند المسلمين. وما أثار الجدل استشهاد عبادي بحديث للخليفة عمر، وهو على فراش الموت، عندما أوصى أصحابه بأن لا يبيتوا ثلاث ليالٍ بدون خلافة، ومن عارض ذلك يجب ضرب عنقه.
من يستمع إلى الفيديو يجد أن عبادي كان يتحدث عن واقعةٍ تاريخيةٍ لتفسير الموجبات الشرعية للخلافة التي حدّدها في الإجماع والقرآن والسنة. والمُطَلِع على أدبيات جماعة العدل والإحسان لن يعثر على جديد في ما قاله الرجل، بما أن فكر مؤسس الجماعة، عبد السلام ياسين، يقوم على الدعوة إلى إقامة الخلافة على منهاج النبوة. أما سبب الجدل الذي أثاره حديث عبادي فهو، في نظري، قسمان؛ قسم من الذين يخالفون الجماعة في فكرها ومنهجها، فاستغلوا حديث أمينها العام للهجوم عليها، وقسم من الذين لا يشاركون الجماعة رأيها، لكنهم من أنصار الانفتاح عليها، قوةً مجتمعية مناهضة للفساد والاستبداد.
أثار حديث محمد عبادي كل هذا الجدل من حوله، لأنه يأتي في سياق مغربي محلي، وبتأثر من رياح "الربيع العربي"، سعت فيه الجماعة إلى الانفتاح على قوى يسارية وعلمانية، من أجل التنسيق لقيام حركة تغيير سلمي وديمقراطي في المغرب. أما السياق الدولي فيتمثل في أن مفهوم الخلافة الإسلامية في العالم أصبح مرتبطاً بدولة "داعش"، وهذا ما جرّ انتقاداً كثيراً على حديث عبادي، من منتقدين ليسوا كلهم موضوعيين.
وبما أن المناسبة شرط، كما يُقال، فقد فتح هذا الحديث مجدّداً المجال لمناقشة "الجماعة" في أحد أهم أسسها العقائدية، أي مفهوم الدولة عندها وفي أدبياتها. وهو مفهومٌ لم يتغير، منذ وضع أسسه مؤسس الجماعة، عبد السلام ياسين، وهو، كما يعرف المطلعون على أدبيات الجماعة، يقوم على تعريف الدولة بناء على ثلاثة مفاهيم أساسية: الولاية والجماعة والقيادة، لبناء ما تسميه أدبيات الجماعة "الدولة القرآنية".
ولتبسيط الفكرة، لأنه لا مجال في مثل هذا المقال المقتضب للاستفاضة في الشرح، فإن الدولة التي تنشدها أدبيات "العدل والإحسان" تكون فيها الولاية لله، وشعبها هم جماعة المسلمين، تقودهم قيادة ربانيةٌ نحو الهدف الأسمى لهذه الدولة، وهو دولة الخلافة الثانية، بعد دولة الخلافة الأولى التي قامت في عهد الصحابة. وتضم دولة الخلافة جميع المسلمين من دون استثناء، وتنمحي فيها الخلافات والحدود بين الأقطار، ويقودها خليفةٌ لا مجال لمعارضته، بما أن أغلبية المسلمين اتفقوا على توليته أمرهم.
ما زال هذه الفكر العقيدي راسخاً عند الجماعة تنظّر له أدبياتها، وتروّجه في خطاباتها، ويأتي حديث عبادي عن الخلافة في هذا السياق، أي الشرح والدعاية لفكر جماعته، وليس في هذا الوصف ما هو قدْحي، بما أن الدعاية واحدةٌ من آليات نشر الفكر السياسي في العصر الحديث وشرحه.
وحتى عندما انبرى أعضاء في "العدل والإحسان" من عناصرها الشابة والمنفتحة، لتوضيح
مقاصد أمينهم العام من حديثه عن مفهوم الخلافة، لم ينفوا تخلي الجماعة عن فكرة إقامة الخلافة، هدفاً أسمى، أو كما سماه عبادي في الحديث نفسه، بأنه "مسألة حياة أو موت". فقد قال حسن بناجح، وهو عضو الأمانة العامة للجماعة، إن الخلافة التي تتبناها جماعته هي خلافة على منهاج النبوة لبناء دولة فيدرالية إسلامية، تجمع الدول الإسلامية، وتوحد جميع المسلمين.
وفي هذا الكلام طوباوية كثيرة، تماماً كما في كلام عبادي الكثير من الأحلام والتناقضات التي نستعرضها هنا بعجالة. يقول عبادي إن الهدف من إقامة دولة الخلافة هو توحيد شتات المسلمين في بقاع الأرض، ووضعهم تحت قيادة واحدة، هي قيادة الخليفة الذي يجب أن يطاع أمره. وفي هذا الكلام الكثير من التناقض والتنافر مع معطيات العصر الحالي السياسية والجيوسياسية. ويذهب عبادي إلى أن وظيفة دولة الخلافة تتمثل في حماية المسلمين من كل اعتداء خارجي، يأتي من "أعداء الدين". وفي هذا إحالة على الحروب الدينية التي كلفت البشرية أرواحاً بريئة كثيرة. يضاف إلى ذلك أن المسلمين، اليوم، هم الذين يتقاتلون فيما بينهم شيعاً وطوائف ومذاهب وأعراقاً وإثنيات ودولاً وشعوباً.
يقول عبادي، مستشهداً بعمر ابن الخطاب، "من رفض الخلافة فاضربوا عنقه"، وفي هذا تناقض مع مفهوم الدولة المدنية الحديثة الذي يقوم على مبدأ التعددية وحرية الرأي واحترام الحق في الاختلاف. وهذا ما يجعل من دولة الخلافة دولةً شموليةً، لا مجال فيها للمعارضة أو حرية الرأي.
والتناقض في هذه النقطة بالذات يمكن في التفسير الذي يمكن أن يعطى لكلام عبادي فهو كان يقصد من وراء استشهاده بقولة عمر أن دولة الخلافة يجب أن يكون عليها إمام واحد، أي قائد واحد، بما أن تمثل الجماعة مفهوم الخلافة يجمع بين ما هو عقيدي وما هو سياسي، وهو ما يعني أنه لا مجال فيها لمعارضة الإمام القائد. والحال أن الواقع الذي يتحدّث فيه وعنه عبادي، أي الواقع المغربي، توجد فيه بنية دينية وسياسية، شبيهة ببنية الخلافة التي يدعو إليها. فمفهوم "إمارة المؤمنين" التي ينص عليها الدستور المغربي تقوم على الأسس الدينية والشرعية نفسها التي تبني عليها الجماعة أسس مفهوم الخلافة عندها. وبما أن الحكم في المغرب يقول إن شرعيته تقوم على وجود إجماع على "إمارة المؤمنين"، فهل يجب أن تَضرب "دولة إمارة المؤمنين" عنق كل من يعارضها، والحال أن جماعة العدل والإحسان واحدة من أكبر معارضي مفهوم "إمارة المؤمنين" في المغرب.
عندما تعارض جماعة العدل والإحسان "إمارة المؤمنين"، وتنظّر لـ "خلافة المسلمين"، لا تأتي بالجديد الذي يمكن أن يقدّم المغرب، وأكثر من ذلك، تبتعد عن التأسيس للدولة المدنية الكفيلة وحدها بضمان حرية العقيدة والرأي للجميع، مسلمين وغير مسلمين وغير متدينين.
لذلك، على "العدل والإحسان" أن تختار ما بين دولة الخلافة أو الدولة المدنية، لأن الوقوف بين المنزلتين لن يؤدي إلا لمزيد من عزلتها داخل مشهد سياسي مشتت، المستفيد منه هو الفساد والاستبداد.
من يستمع إلى الفيديو يجد أن عبادي كان يتحدث عن واقعةٍ تاريخيةٍ لتفسير الموجبات الشرعية للخلافة التي حدّدها في الإجماع والقرآن والسنة. والمُطَلِع على أدبيات جماعة العدل والإحسان لن يعثر على جديد في ما قاله الرجل، بما أن فكر مؤسس الجماعة، عبد السلام ياسين، يقوم على الدعوة إلى إقامة الخلافة على منهاج النبوة. أما سبب الجدل الذي أثاره حديث عبادي فهو، في نظري، قسمان؛ قسم من الذين يخالفون الجماعة في فكرها ومنهجها، فاستغلوا حديث أمينها العام للهجوم عليها، وقسم من الذين لا يشاركون الجماعة رأيها، لكنهم من أنصار الانفتاح عليها، قوةً مجتمعية مناهضة للفساد والاستبداد.
أثار حديث محمد عبادي كل هذا الجدل من حوله، لأنه يأتي في سياق مغربي محلي، وبتأثر من رياح "الربيع العربي"، سعت فيه الجماعة إلى الانفتاح على قوى يسارية وعلمانية، من أجل التنسيق لقيام حركة تغيير سلمي وديمقراطي في المغرب. أما السياق الدولي فيتمثل في أن مفهوم الخلافة الإسلامية في العالم أصبح مرتبطاً بدولة "داعش"، وهذا ما جرّ انتقاداً كثيراً على حديث عبادي، من منتقدين ليسوا كلهم موضوعيين.
وبما أن المناسبة شرط، كما يُقال، فقد فتح هذا الحديث مجدّداً المجال لمناقشة "الجماعة" في أحد أهم أسسها العقائدية، أي مفهوم الدولة عندها وفي أدبياتها. وهو مفهومٌ لم يتغير، منذ وضع أسسه مؤسس الجماعة، عبد السلام ياسين، وهو، كما يعرف المطلعون على أدبيات الجماعة، يقوم على تعريف الدولة بناء على ثلاثة مفاهيم أساسية: الولاية والجماعة والقيادة، لبناء ما تسميه أدبيات الجماعة "الدولة القرآنية".
ولتبسيط الفكرة، لأنه لا مجال في مثل هذا المقال المقتضب للاستفاضة في الشرح، فإن الدولة التي تنشدها أدبيات "العدل والإحسان" تكون فيها الولاية لله، وشعبها هم جماعة المسلمين، تقودهم قيادة ربانيةٌ نحو الهدف الأسمى لهذه الدولة، وهو دولة الخلافة الثانية، بعد دولة الخلافة الأولى التي قامت في عهد الصحابة. وتضم دولة الخلافة جميع المسلمين من دون استثناء، وتنمحي فيها الخلافات والحدود بين الأقطار، ويقودها خليفةٌ لا مجال لمعارضته، بما أن أغلبية المسلمين اتفقوا على توليته أمرهم.
ما زال هذه الفكر العقيدي راسخاً عند الجماعة تنظّر له أدبياتها، وتروّجه في خطاباتها، ويأتي حديث عبادي عن الخلافة في هذا السياق، أي الشرح والدعاية لفكر جماعته، وليس في هذا الوصف ما هو قدْحي، بما أن الدعاية واحدةٌ من آليات نشر الفكر السياسي في العصر الحديث وشرحه.
وحتى عندما انبرى أعضاء في "العدل والإحسان" من عناصرها الشابة والمنفتحة، لتوضيح
وفي هذا الكلام طوباوية كثيرة، تماماً كما في كلام عبادي الكثير من الأحلام والتناقضات التي نستعرضها هنا بعجالة. يقول عبادي إن الهدف من إقامة دولة الخلافة هو توحيد شتات المسلمين في بقاع الأرض، ووضعهم تحت قيادة واحدة، هي قيادة الخليفة الذي يجب أن يطاع أمره. وفي هذا الكلام الكثير من التناقض والتنافر مع معطيات العصر الحالي السياسية والجيوسياسية. ويذهب عبادي إلى أن وظيفة دولة الخلافة تتمثل في حماية المسلمين من كل اعتداء خارجي، يأتي من "أعداء الدين". وفي هذا إحالة على الحروب الدينية التي كلفت البشرية أرواحاً بريئة كثيرة. يضاف إلى ذلك أن المسلمين، اليوم، هم الذين يتقاتلون فيما بينهم شيعاً وطوائف ومذاهب وأعراقاً وإثنيات ودولاً وشعوباً.
يقول عبادي، مستشهداً بعمر ابن الخطاب، "من رفض الخلافة فاضربوا عنقه"، وفي هذا تناقض مع مفهوم الدولة المدنية الحديثة الذي يقوم على مبدأ التعددية وحرية الرأي واحترام الحق في الاختلاف. وهذا ما يجعل من دولة الخلافة دولةً شموليةً، لا مجال فيها للمعارضة أو حرية الرأي.
والتناقض في هذه النقطة بالذات يمكن في التفسير الذي يمكن أن يعطى لكلام عبادي فهو كان يقصد من وراء استشهاده بقولة عمر أن دولة الخلافة يجب أن يكون عليها إمام واحد، أي قائد واحد، بما أن تمثل الجماعة مفهوم الخلافة يجمع بين ما هو عقيدي وما هو سياسي، وهو ما يعني أنه لا مجال فيها لمعارضة الإمام القائد. والحال أن الواقع الذي يتحدّث فيه وعنه عبادي، أي الواقع المغربي، توجد فيه بنية دينية وسياسية، شبيهة ببنية الخلافة التي يدعو إليها. فمفهوم "إمارة المؤمنين" التي ينص عليها الدستور المغربي تقوم على الأسس الدينية والشرعية نفسها التي تبني عليها الجماعة أسس مفهوم الخلافة عندها. وبما أن الحكم في المغرب يقول إن شرعيته تقوم على وجود إجماع على "إمارة المؤمنين"، فهل يجب أن تَضرب "دولة إمارة المؤمنين" عنق كل من يعارضها، والحال أن جماعة العدل والإحسان واحدة من أكبر معارضي مفهوم "إمارة المؤمنين" في المغرب.
عندما تعارض جماعة العدل والإحسان "إمارة المؤمنين"، وتنظّر لـ "خلافة المسلمين"، لا تأتي بالجديد الذي يمكن أن يقدّم المغرب، وأكثر من ذلك، تبتعد عن التأسيس للدولة المدنية الكفيلة وحدها بضمان حرية العقيدة والرأي للجميع، مسلمين وغير مسلمين وغير متدينين.
لذلك، على "العدل والإحسان" أن تختار ما بين دولة الخلافة أو الدولة المدنية، لأن الوقوف بين المنزلتين لن يؤدي إلا لمزيد من عزلتها داخل مشهد سياسي مشتت، المستفيد منه هو الفساد والاستبداد.