وهل نجا أحد؟ لم ينجُ من رابعة إلا قليل، وهم هناك متكئون في جنات ونعيم فرحين مستبشرين..
أما عنّا فلم ينجُ أحد..
صديقتي ريفية بسيطة لا تعرف للقلب مهمة إلا الحب.. تحب الله والأوطان.. تحب تمازج الألوان.. تحب الشمس وقت الغروب ووقت الشروق.. تحب المطر والنيل وصوت الأذان.. صديقتي تلك لم تنجُ من رابعة فقد أسرت روحها بين القضبان وامتهنت وضمُر الحب وملأ القلب مشاعر ثأر وغل.. وروح صديقتي مازالت عالقة في رابعة..
صغيرتي الغجرية "كذلك أدعوها" متمردة متألقة مشاغبة لا تكف تطرحُ أسئلة ممنوعة وتنافس وتتحدى لا تصمت أبداً.. وطوال الوقت تثرثر عن الثورة والثورية والحرية والإنسانية.. صغيرتي الغجرية ما عادت صغيرتي ولا عادت غجرية.. أضحت صامتة كلوح زجاج، طلت حوائط غرفتها بالأسود.. ما مات أبوها ولا رحل أخوها، لكن علقت روحها في أرض رابعة..
أستاذي ذو الصوت الحاد والكلمات الموزونة.. أستاذي ذو الحكمة.. أستاذي ذو الخطب الرنانة وحماسة تتنافى مع عمره، أستاذي لم ينجُ.. يوم رابعة ضاعت حكمته و أصابته "اللخمة".. ولكل تساؤلنا لم يلق جواباً فاعتزل المنبر.. ومضى شارد الذهن "منكوش" الشعر وقد تاه العقل.. أستاذي علق برابعة!.
أما الخالة تلك، القلب النابض والحب الدافق.. هي روح عطاءٍ ومحبة، ولذا خُلقت.. الخالة، أيضاً، لم تنجُ.. قد عبرت رابعة كعادتها توزع بهجة وتمحو ألماً.. تطعم طعاماً طبخته بحب.. هكذا هي.. ويوم رابعة أطعمت خالتي حُرّاس الميدان.. ويوم الغدر نجا الحرّاس ولم تنجُ الخالة! لم تعد الخالة كالماضي، فالحزن صديق والوحدة هي خير رفيق ومازالت روح الخالة عالقة برابعة..
وصغيرٌ يحبو ذو وجه باسم، يشبه وجهاً نورياً ضاحكاً.. صغيرٌ لم ينجُ من رابعة.. تعلم كل الكلمات عدا "بابا"، فوالده ذو الوجه الضاحك قد نجا ولم ينجُ الصغير!
وامرأة عاشقة لم تنجُ من رابعة فقد نجا حبيبها وعلى كتفيها سال الدم ورحل مع الناجين، وظلت ملتاعة يأكلها الشوق ويقتلها الحنين وعلقت روحها برابعة!
وفارس لا يهاب إلا الخالق.. فطرته أنقى من لبن مصفى.. قلبه أقوى من قلب الأسد.. علق برابعة.. طعنت شجاعته في مقتل.. يوم أن فر وحيداً بعد غروب.. ليعيش وحيداً دون رجاله.. يتجرع آلام الفقد ويبلعها.. دُفن رجاله مع الناجين ولم ينجُ..
سيدةٌ في منتصف العمر لم تنجُ من رابعة.. اقتربت من تحقيق الحلم.. بعد أسابيع ستنهي أوراقها البحثية وتفتح مشروعها الخاص.. طالما حلمت بتلك اللحظة.. عدّت الأيام والأسابيع، و.. علقت في رابعة.. فعلى أسرتها أن تفر قسراً.. وفي منتصف الليل.. رحلت بحقيبة لا تحمل شيئاً.. تركت ملابسها مبعثرة وأوراقها منثورة وتركت عمراً بين تراب.. وأوصدت الأبواب وفرت إلى المهجر.. لتبدأ حبواً من جديد بلا ماضٍ ولا مستقبل.. حتى تلك السيدة لم تنجُ!
ورجلٌ أربعيني بلغ أشده وذاع صيته وربحت تجارته لم ينجُ.. شُرد شهوراً بين بيوت يعرفها، وبيوت لا يعرفها، وعاش كما الأموات، يحيا اليوم بيومه والساعة بساعتها.. عُدت حركاته وسكناته.. وآخرون يتلمسون طريقاً إلى أسرته حتى يمدوهم قليلاً من الزاد.. سُرقت أمواله ومعها سُرق العمر.. حتى ذلك الرجل الأربعيني عالق برابعة!
وفتى، فتي في الرابعة عشر يحلم بأن يُحدث ألعابه وأن يحصل على "بلاي ستيشن" متقدم لم ينجو برابعة.. فخُطف الفتى ليُرحل بدار الأحداث وهناك تُرك وحيداً مذعوراً.. جُوع عُذب واعتدي عليه.. ليخرج بعد أسابيع يحمل هماً كالشيخ وخوفاً يسكنه ثم يعود فيُؤسرُ ثانية.. وتعاد الكرة ويظل الفتى عالقاً برابعة..
وامرأة في الخمسين حققت الحلم وبنت البيت وزوجت الأبناء وسكنوا معها في البيت.. وأخذت ترسم خططاً، فـيوم الجمعة، لن يهرب أحد، الكل سيتجمع عندي وأُعد طعامي من باكر كي نأكل، ثم لننزل إلى حديقة منزلنا، حيث الألعاب لأحفادي، وهنا كراسي الاستجمام، وهنا ركن الشاي، لم تنسَ شيئاً.. وأخيراً سأقضي عمري أتمتع مع أبنائي.. حتى تلك السيدة علقت برابعة..
فالزوج شريد لا تعرف أثره، والأبناء قُسموا نصفين، نصفٌ في المنفى، والنصف الآخر بين القضبان.. سكن البيت سكون ملتاع.. لم ينجُ!
لم ينجُ من رابعة إلا قليل..
(مصر)
أما عنّا فلم ينجُ أحد..
صديقتي ريفية بسيطة لا تعرف للقلب مهمة إلا الحب.. تحب الله والأوطان.. تحب تمازج الألوان.. تحب الشمس وقت الغروب ووقت الشروق.. تحب المطر والنيل وصوت الأذان.. صديقتي تلك لم تنجُ من رابعة فقد أسرت روحها بين القضبان وامتهنت وضمُر الحب وملأ القلب مشاعر ثأر وغل.. وروح صديقتي مازالت عالقة في رابعة..
صغيرتي الغجرية "كذلك أدعوها" متمردة متألقة مشاغبة لا تكف تطرحُ أسئلة ممنوعة وتنافس وتتحدى لا تصمت أبداً.. وطوال الوقت تثرثر عن الثورة والثورية والحرية والإنسانية.. صغيرتي الغجرية ما عادت صغيرتي ولا عادت غجرية.. أضحت صامتة كلوح زجاج، طلت حوائط غرفتها بالأسود.. ما مات أبوها ولا رحل أخوها، لكن علقت روحها في أرض رابعة..
أستاذي ذو الصوت الحاد والكلمات الموزونة.. أستاذي ذو الحكمة.. أستاذي ذو الخطب الرنانة وحماسة تتنافى مع عمره، أستاذي لم ينجُ.. يوم رابعة ضاعت حكمته و أصابته "اللخمة".. ولكل تساؤلنا لم يلق جواباً فاعتزل المنبر.. ومضى شارد الذهن "منكوش" الشعر وقد تاه العقل.. أستاذي علق برابعة!.
أما الخالة تلك، القلب النابض والحب الدافق.. هي روح عطاءٍ ومحبة، ولذا خُلقت.. الخالة، أيضاً، لم تنجُ.. قد عبرت رابعة كعادتها توزع بهجة وتمحو ألماً.. تطعم طعاماً طبخته بحب.. هكذا هي.. ويوم رابعة أطعمت خالتي حُرّاس الميدان.. ويوم الغدر نجا الحرّاس ولم تنجُ الخالة! لم تعد الخالة كالماضي، فالحزن صديق والوحدة هي خير رفيق ومازالت روح الخالة عالقة برابعة..
وصغيرٌ يحبو ذو وجه باسم، يشبه وجهاً نورياً ضاحكاً.. صغيرٌ لم ينجُ من رابعة.. تعلم كل الكلمات عدا "بابا"، فوالده ذو الوجه الضاحك قد نجا ولم ينجُ الصغير!
وامرأة عاشقة لم تنجُ من رابعة فقد نجا حبيبها وعلى كتفيها سال الدم ورحل مع الناجين، وظلت ملتاعة يأكلها الشوق ويقتلها الحنين وعلقت روحها برابعة!
وفارس لا يهاب إلا الخالق.. فطرته أنقى من لبن مصفى.. قلبه أقوى من قلب الأسد.. علق برابعة.. طعنت شجاعته في مقتل.. يوم أن فر وحيداً بعد غروب.. ليعيش وحيداً دون رجاله.. يتجرع آلام الفقد ويبلعها.. دُفن رجاله مع الناجين ولم ينجُ..
سيدةٌ في منتصف العمر لم تنجُ من رابعة.. اقتربت من تحقيق الحلم.. بعد أسابيع ستنهي أوراقها البحثية وتفتح مشروعها الخاص.. طالما حلمت بتلك اللحظة.. عدّت الأيام والأسابيع، و.. علقت في رابعة.. فعلى أسرتها أن تفر قسراً.. وفي منتصف الليل.. رحلت بحقيبة لا تحمل شيئاً.. تركت ملابسها مبعثرة وأوراقها منثورة وتركت عمراً بين تراب.. وأوصدت الأبواب وفرت إلى المهجر.. لتبدأ حبواً من جديد بلا ماضٍ ولا مستقبل.. حتى تلك السيدة لم تنجُ!
ورجلٌ أربعيني بلغ أشده وذاع صيته وربحت تجارته لم ينجُ.. شُرد شهوراً بين بيوت يعرفها، وبيوت لا يعرفها، وعاش كما الأموات، يحيا اليوم بيومه والساعة بساعتها.. عُدت حركاته وسكناته.. وآخرون يتلمسون طريقاً إلى أسرته حتى يمدوهم قليلاً من الزاد.. سُرقت أمواله ومعها سُرق العمر.. حتى ذلك الرجل الأربعيني عالق برابعة!
وفتى، فتي في الرابعة عشر يحلم بأن يُحدث ألعابه وأن يحصل على "بلاي ستيشن" متقدم لم ينجو برابعة.. فخُطف الفتى ليُرحل بدار الأحداث وهناك تُرك وحيداً مذعوراً.. جُوع عُذب واعتدي عليه.. ليخرج بعد أسابيع يحمل هماً كالشيخ وخوفاً يسكنه ثم يعود فيُؤسرُ ثانية.. وتعاد الكرة ويظل الفتى عالقاً برابعة..
وامرأة في الخمسين حققت الحلم وبنت البيت وزوجت الأبناء وسكنوا معها في البيت.. وأخذت ترسم خططاً، فـيوم الجمعة، لن يهرب أحد، الكل سيتجمع عندي وأُعد طعامي من باكر كي نأكل، ثم لننزل إلى حديقة منزلنا، حيث الألعاب لأحفادي، وهنا كراسي الاستجمام، وهنا ركن الشاي، لم تنسَ شيئاً.. وأخيراً سأقضي عمري أتمتع مع أبنائي.. حتى تلك السيدة علقت برابعة..
فالزوج شريد لا تعرف أثره، والأبناء قُسموا نصفين، نصفٌ في المنفى، والنصف الآخر بين القضبان.. سكن البيت سكون ملتاع.. لم ينجُ!
لم ينجُ من رابعة إلا قليل..
(مصر)