يعزو الدارسون الأسباب التي أدّت إلى ظهور الأبنية العشوائية حول محيط بغداد إلى تشكيل الجيش العراقي في مطلع عشرينيات القرن الماضي، وفرض التجنيد الإجباري على أبناء الأرياف الذين اضطروا إلى إحضار عوائلهم في وقت بدأت ترتفع فيه أثمان العقار في العاصمة، ولم يستطيعوا امتلاكها.
بدأت موجات الهجرة تأتي من المحافظات الجنوبية كالعمارة والناصرية، بشكل خاص، حيث عاش فلاحوها أحوالاً اقتصادية واجتماعية سيئة بسبب تغوّل الإقطاع قياساً بالشمال، ولا يمكن الجزم بتاريخ محدّد لبدء ظاهرة النزوح الجماعي، لكن معظم المصادر تشير إلى أن البدايات كانت مع انتهاء الحرب العالمية الأولى (1914 - 1918)، وأخذت بالتزايد في نهاية الثلاثنييات وما بعدها.
يعود الباحث العراقي حيدر عطية كاظم في كتابه "الصرائف في بغداد (1932 – 1962): دراسة في التاريخ الاجتماعي"، الصادر حديثاً عن "دار الشؤون الثقافية العامة"، إلى أوّل تصميم وُضع لبغداد الحديثة عام 1920، قدّمه المعماري البريطاني جي. إم. ويلسون، الذي رافق جيش بلاده وشغل منصب مدير للأشغال في أول حكومة عراقية عام 1921، وبدأ تنفيذه بعد نحو عامين.
يفصّل الكتاب التطوّر العمراني الذي كان خاضعاً لمخطّطات حديثة، وتوسّع آخر في الثلاثينيات كان باتجاه الشمال والجنوب بمحاذاة نهر دجلة، غير أن ذلك لم يكن مبنياً على خطط هندسية إنما كان أقرب إلى العشوائيات.
ويلفت عطية إلى أن "الفلاحين المهاجرين أقدموا على بناء صرائفهم في بغداد التي لم تختلف عن مثيلاتها في الريف، خاصة في طريقة بنائها ومساحتها التي لم تتجاوز الثلاثين متراً مربعاً في أفضل الأحوال، مع خلوّها من الأثاث تقريباً ما عدا صندوقاً يضمّ ملابسهم، ونادراً ما تحتوي الصرائف على سرير حتى وإن كان من سعف النخيل للمنام".
سمّيت هذه الأبنية بالصرائف لأنها كانت تشيّد من صريفة مصنوعة من البواري والقصب، بحسب الكتاب، وغطّت مساحات واسعة من المنطقة القريبة من ساحة النهضة وامتدت حتى البتاوين في الباب الشرقي، وغالباً ما تكون مشيدة كلياً أو جزيئاً من الحصران المصنوعة من القصب وسقفها مقوّس على شكل نصف دائرة من دون مساند ما عدا النهايات، وتغطى الجدران الحصرية بمادة الطين أثناء الشتاء، ويمكن نقل الصريفة من مكان إلى آخر، وتشمل في الغالب غرفة واحدة.
يوضّح الباحث أن "أوّل مجموعة صرائف بالقرب من محطة قطار شرق بغداد، وبمرور الأيام ازدادت الصرائف في تلك المنطقة التي أصبحت تسمى بمحلة الخندق، حيث كان المحظوظ من سكان تلك المنطقة من وجد فرصة عمل في أحد المعامل القريبة، ومنها معامل السكائر".
يتكوّن الكتاب، الذي يمثّل الأطروحة التي وضعها عطية لنيل درجة الماجستير، من مقدمة وأربعة فصول وخاتمة؛ الأول يتناول تكوّن أحياء الصرائف في بغداد والموقف الرسمي منها، والظروف والأسباب التي وقفت وراء هجرة الفلاحين إلى بغداد مركزاً على ظلم الإقطاعيين للفلاحين، بينما يستعرض الثاني الموقف الشعبي من سكان الصرائف في بغداد.
أما الفصل الثالث فيقف على أسباب وظروف تفجر ثورة 14 تموز/ يوليو 1958 ومواقفها المبكرة من بعض الطبقات الاجتماعية، وذهب الرابع إلى إيراد موقف الأحزاب العلنية منها والسرية، بالاعتماد على وثائق غير منشورة مثل أرشيف وزارة الداخلية العراقية، ومحاضر جلسات الإعمار والتخطيط الاقتصادي، ومحاضر جلسات مجلسي النواب والأعيان، وخطابات الرئيس العراقي الراحل عبد الكريم قاسم التي جُمعت ونُشرت في كلّ سنة على حدة.