"السلاح الذكي" المفقود.. تفكيك داعش

23 مارس 2015
+ الخط -

تراجع سقف التوقعات العالي، وانخفضت درجة التفاؤل لدى الحكومة العراقية ومليشيات الحشد الشعبي الموالية لها، وفي أوساط الحرس الثوري الإيراني، في الأيام الأخيرة، مع التأخر والتباطؤ في عملية السيطرة على تكريت، وهزيمة مسلّحي داعش هناك، على خلاف المرحلة الأولى من العملية التي شهدت تسارعاً كبيراً، وتفاؤلاً هائلاً، وتوقعات مبكّرة متسرّعة، بالقضاء على التنظيم في مختلف أنحاء العراق!

ليس ذلك فحسب، بل بدأت الخلافات والتناقضات تظهر بقوة داخل التحالف الدولي والإقليمي وبين الشركاء على الأرض في العراق، بل وفي أروقة الحكومة العراقية، وداخل مؤسساتها العسكرية والأمنية.

يتمثل أساس الأزمات الحالية بالانحراف الذي حدث على مسار الحرب الراهنة، ووقوع الجميع في ما كانوا يحذرونه، ويحذّرون منه، عبر طغيان المنطق الطائفي والصراع الهوياتي على ما يحدث. فنتيجة عدم وجود قوات عسكرية قادرة ومؤهلة على ترجمة القصف الجوي، لا الجيش العراقي ولا العشائر السنية، فإنّ الحرس الثوري الإيراني أصبح يتولّى، عملياً ومباشرةً، دفّة القيادة لهذه المعارك البرية في العراق وسورية.

ما كانت تتحدث عنه الإدارة الأميركية من ضرورة تجنّب الوجه الطائفي للصراع، والاعتماد على السنّة (بوصفهم السلاح الفتّاك ضد داعش)، وأهمية التزاوج بين العملية السياسية والحل العسكري في العراق، تبخّر ذلك كله، اليوم، في ساحات المعارك، حتى أنّ قائد فيلق القدس، قاسم سليماني، أصرّ على تنفيذ أجندته في الحرب البرية، وعدم الالتزام بالأجندة الأميركية، ولا برؤية الحلفاء، كي يسجّل هذا الانتصار لنفسه ولإيران!

بالضرورة، مثل هذه التطورات خلقت شقوقاً جليّة، ستبدأ بالتوسّع داخل التحالف الدولي والإقليمي، أولاً، بين رؤية كل من الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا للعلاقة مع إيران، ومصير الأسد، وثانياً بين السعودية وتركيا والولايات المتحدة. لكن الأهم من هذا وذاك، والأكثر خطورة، يكمن في أنّ المسار الحالي لا يخدم استراتيجية فك الاشتباك والتواصل بين المجتمع السني وتنظيم داعش، بل يعزز هذه العلاقة، ويعطي دعاية هذا التنظيم السياسية والإعلامية مصداقية هائلة.

ربما يدرك الحلفاء وخصوم تنظيم داعش هذه الإشكالية، ولعلهم يعرفون تماماً حجم التورط الحالي، لكنّ المعضلة، التي يتحدثون عنها، وكانت، منذ البداية، تمثّل إحدى أبرز نقاط الضعف في التحالف الدولي، تتمثّل في عدم وجود طرف سنّي قوي وفاعل على الأرض، يمكن بالفعل الاعتماد عليه في مواجهة تنظيم داعش، سواء في العراق أو حتى في سورية.

بالضرورة، تتجاهل مثل هذه القراءة أنّ الحكومة العراقية، ومن ورائها القوى النافذة المؤيدة لإيران، لا يرغبون، وربما يتخوفون من تسليح السنّة وتقويتهم لمواجهة داعش، فهنالك أزمة ثقة كبيرة بين الطرفين. لكن، ومع ذلك، من الضروري الإقرار بأنّ الحديث الدولي، سابقاً، عن الدور العسكري السني في مواجهة داعش ليس واقعياً، ولا منطقياً، في ظل الظروف الراهنة، لأسباب متعددة، منها عدم ثقة المجتمع السني بالحكومة العراقية الراهنة، وتفتت المجتمع السني وتشظّيه، وتبدو مأساة النخب السنية المشاركة في العملية السياسية في أنّهم أصبحوا معزولين من الطرفين الرئيسين: الحكومة العراقية من جهة، وأغلبية المجتمع السني خارج بغداد من جهة ثانية.

ما الحل إذاً؟

من الضروري التفكير في ما كان مسكوتاً عنه، أو خارج نطاق البحث، وهو الحوار مع تنظيم داعش، وبعبارةٍ أدقّ بعض الأطراف والأجنحة في هذا التنظيم، التي تنتمي إلى الأزمة السنية، وما ينتابها من هواجس وقلق وجودي، أكثر ممّا هي تمثّل، بالفعل، ما وصلت إليه أيديولوجيا التنظيم دينياً وفكرياً، فهنالك جناح كبير مهم وحيوي في التنظيم، يقع في المجال العسكري والأمني، تتمثل أولويته بالهاجس السني العراقي، وقد تنحل عقدته عبر مفاوضات غير مباشرة، تؤدي إلى منح السنة وأعضاء التنظيم، الذين عانوا من التهميش والإقصاء والتجويع، لكونهم أعضاء في الجيش العراقي السابق، وهم شريحة واسعة وكبيرة، ومفاتيح حقيقية لإيجاد عنوان آخر غير تنظيم داعش ومسار مختلف.

قد يرى بعضهم أنّ هذا الخيار غير منطقي، لكن تفكيك داعش وتحليل مكوناتها والتمييز بينها، هو أحد أهم الأسلحة الذكية في التعامل مع التنظيم، وهي استراتيجية تختلف جوهرياً عمّا أشار إليه، سابقاً، الكاتب الأميركي المعروف، ديفيد إغناتيوس، بوصفه "السلاح القذر"، إذ ذكر بأنّ المسؤولين الأميركيين بدأوا باستخدام جانب الدعاية الإعلامية والحرب النفسية باختلاق صراعات داخل أروقة التنظيم بين القادمين من الخارج والعراقيين.

ليست الاستراتيجية الغائبة التي نتحدث عنها تلك الرؤية القاصرة السطحية، بل هي رؤية عميقة، تنطلق من هدف تفكيك داعش بالفعل، وعلى أرض الواقع، عبر إدراك طبيعة التنظيم ومكوناته وديناميكيته، وصولاً إلى الجناح المرن العسكري العراقي، والتفاوض معه، إلى تقديم حلول سياسية واستراتيجية مقنعة، وهي الاستراتيجية التي بقيت الولايات المتحدة الأميركية مترددة فيها سابقاً مع حركة طالبان، ثم تبنّتها لكن بعد فوات الأوان!

سرّ قوة داعش يتمثل في الحاضنة السنية، وما يحدث، حالياً، في العراق لا يضعف العلاقة بين التنظيم والحاضنة، بل يعززها ويقويّها، ما سيؤدي، في نهاية اليوم، إلى حلقة مفرغة من الصراع.

بالطبع، مثل هذا السلاح يتطلب شرطاً أساسياً غائباً، وهو وجود أفق سياسي حقيقي، والتوافق على خطوط الحل السياسي المطلوب، وهو أمر ليس من السهولة على إيران وحلفائها القبول به، إلاّ إذا حدث توازن إقليمي، وجلس طرف آخر قوي على الطاولة، ووضع شروطه، لدعم الحل السياسي ـ العسكري، وهنا، تأتي أهمية التقارب السعودي ـ الإيراني الراهن، الذي جاء متأخراً بطيئاً متردداً، ولا يزال هشّاً وضعيفاً، لكنه إقليمياً يمكن أن يكون مفتاحاً مهمّاً لتصويب المسار العراقي.

محمد أبو رمان
محمد أبو رمان
أستاذ العلوم السياسية بالجامعة الأردنية والمستشار الأكاديمي في معهد السياسة والمجتمع.