"الخلوة 2": الخشبة بوصفها صندوق اقتراع

02 نوفمبر 2014
مشهد من "الخلوة 2"
+ الخط -

يبدو أن لدى "فضاء تياترو" التونسي، والمشتغلين معه، مشروعاً يعيد إلى المسرح دوره السياسي في البلد. عبر ورشات "أستوديو المسرح" التي يقيمها، والتي تنتج عروضاً بين حين وآخر، يحاول الفضاء أن يعطي للخشبة مساحتها الخاصة لتقول شيئاً في راهن البلد.

المؤسسة التي أنتجت عام 2011 الجزء الأول من مسرحية "الخلوة"، بالتزامن مع الانتخابات حينها، ها هي تعود مرة أخرى بالجزء الثاني من العرض، "الخلوة 2"، الذي يحاكي هو الآخر الانتخابات، قارئاً معناها بلغة ناقدة ساخرة. العمل الذي أنتجه "فضاء تياترو" وأخرجه معزّ القديري عن نص لمحمد صابر الوسلاتي، تستمر عروضه حتى آخر كانون الأول/ ديسمبر المقبل، بمعدل ستة عروض في كل شهر.

تواصل "الخلوة 2" ما كان بدأه الجزء الأول منها، من قراءة للراهن السياسي، ولا سيما موضوع الفرز الانتخابي، وعلاقة المواطن بعملية الاقتراع. أحداث في غاية الدرامية يفتتح بها المخرج عرضه المكون من 12 مشهداً (ساعة و25 دقيقة). مراسل تلفزيوني في مكتب فرز انتخابي، يحتمي بطاولة على الخشبة، محاولاً إيصال صوته واستكمال التقرير الذي يدلي به على الهواء مباشرة. أصوات أزيز طائرات ورصاص توقف دخول فريق للتصوير السينمائي إلى الخشبة. مخرج يشكر ممثلاً على أدائه المبهر، بينما يتكدس الممثلون الآخرون عليه في مشهد شبيه بابتهاج فريق رياضي بتسجيل هدف.

إننا إزاء مشاهد متعددة ومختلفة قد تشعر المتابع بحالة من التوتر والخوف. لكن المخرج سرعان ما ينتهي من هذا التمهيد، عبر تبدل مفاجئ في الإضاءة والمؤثرات الصوتية، بما يذكر بـ "تغريب" بروتولت بريشت، الذي عنى فيه المسرحي الألماني إقحام المتفرج في دوامة ما هو مألوف وراهن، عبر كل ما هو متاح على الخشبة من أداء وحركة للشخصيات وبناء للمشهد.

لا يحضر الحكواتي كثيراً في مسرحية "الخلوة 2" مثلما نجده مرتسماً بجلاء في المسرح السياسي لسعد الله ونوس (1941 - 1997). هنا، الحضور الأكبر مسندٌ إلى العبث البريشتي.

المبالغة هي سيدة المقام في العرض، إذ يتم تضخيم مجريات الواقع وتهويل ما هو متداول في أذهان الجمهور. كما يتم نحت مفاهيم لا عهد للناس بها، مثل عبارة "الفرز الموازي" التي تتقاطع مع عبارة "الأمن الموازي" الرائجة أخيراً في تونس مع تصاعد حمّى الثورة المضادة. ينهض هذا التضخيم في مجريات الوقائع بوظيفة هامة، هي دفع المشاهد إلى اليقظة المستمرة والتوقع الدائم لما هو كارثي.

يبدو تمرّن الممثلين على الخشبة استدراجاً للمتلقي ليدخل دائرة الإيهام والترقب، بل ليتم تحريضه على إبداء الرأي وعلى الانخراط في التثوير المستمر. هل يستحضر ذلك فكرة مسرحية لا يمكن أن تكون حينئذ إلا مجرد بروفة لا غير؟

يركض الممثلون على الخشبة بلا إعياء، وتتداخل أصوات الجلبة والفوضى وتتوالى المناظر بإيقاع سريع في إطار ما يسميه المسرحي البولوني جوزيف شاينا (1922 – 2008) بـ "الكولاج"، أو المزج بين الجمال والقبح أو الانضباط المنظم والصارم للفوضى الواضحة. كل هذا يرمي، كما يبدو في العرض، إلى صياغة أنساق بصرية مدهشة، بهدف نقل التخبّط القيمي الذي يعيشه الإنسان في جحيم السياسة ومراهناتها.

تكتفي السينوغرافيا، التي وضعها المخرج، بطاولة تتوسط الخشبة، موضوع فوقها الصندوق الوحيد الذي يصل إلى مركز الفرز من جملة مكاتب التصويت. هذا الصندوق الوحيد، الذي كان في الحقيقة علبة بلاستيكية للملابس، والذي لن تجد لجنة الفرز إلا ورقة واحدة فيه، كما نرى في أحد مشاهد المسرحية، يحيل إلى السخرية والتهكم من فكرة توجه الناس بأعداد غفيرة للاقتراع، وإلى حجم الاستهتار السياسي الكبير بأصوات المقترعين.

على أي حال، فإن إيحاءات ساخرة كهذه لا تتصف بنتائج فنية مضمونة. ذلك أن العرض قد يسقط في فخ سرد تفاصيل وطرائف مكرورة ومسكوكة ملّها التونسيون وتجاوزتها الابتكارات الذهنية والاندفاعات الطوعية للمواطن الساعي إلى تخطي واقع التهميش والقهر والغبن.

 إضافة إلى ذلك، فإن الفعل التمثيلي في مسرحية "الخلوة 2" يقع أحياناً في متاهة الاستطالة والمطّ لكل ما هو عرضي وغير مثير. ولعل تجسيد مناظر البرنامج التلفزيوني المسمىّ "الصندوق"، نموذج مناسب على ذلك.

في مسعاه إلى نقد مسألة نسيان الساسة لمطالب الثورة التونسية، يقحم المخرج في عرضه عدداً من الممثلين في أزياء بيضاء، "ملائكية"، ليضطلعوا بدور الشهداء. يتيح ذلك إبراز طقس تضحية الشهيد كعنصر درامي يدعم السينوغرافيا ويعمّق النفَس الدرامي، ويمكّن من تجاوز الطابع السوداوي للواقع.

يقول المخرج معز القديري، في حديث مع "العربي الجديد"، إن الفعل المسرحي في تونس رغم ما حققه في السنوات الماضية من نجاح، "أصبح اليوم في مجمله عبثياً ويتّسم بهيكلية هشة". يمكن فهم ذلك ببساطة، كما يقول القديري، "من خلال تراجع الفعل النقدي، وشعور المسرحي أيضاً بالضيم والتجاهل من قبل السلطات".

دلالات
المساهمون