"الجوّانيّـة"، ليس مجرّد تمرين لغوي فقط!

15 سبتمبر 2015
لوحة للفنان الفرنسي بول غوغان
+ الخط -
يعتبر المستعرب، أندريه ميكيل، في سياق الحوار المنشور معه هنا، أن عدم الانصهار في ما أسماه "جوّانيّة البلد" لا يساعد في التعرّف على أي بلد تكون راغباً في درسه.
وبرغم أن ميكيل يقدّم أنموذجاً مضادّاً لمثقفين غربيين تركزوا في محاولات التنظير للعنصرية، وإثبات شرعيتها حيال المشرق، على غرار آرثر جوبينو وروديار كيبلينغ، وبما قد يغري بالمقارنة بينه وبينهم إلا أن إيثاره استعمال مصطلح "الجوّانيّة" تسبّب في تداعيات كثيرة لديّ، ليس أبسطها اللغوية.
وفقاً لـ"قاموس المعاني"، الجوّانيّ هو باطن الشيء، داخلُه، عكْس برّانيّ. وورد في حديث شريف: إِنَّ لكلِّ امرئ جَوَّانِيًّا وبَرَّانِيًّا، فمن أَصلح جَوَّانِيَّهُ أَصلح اللهُ بَرَّانِيَّهُ.
وفي غوغلة سريعة لهذا المصطلح، طالعتني بادئ ذي بدء قراءات متعدّدة لِكِتاب وضعه إيريك جوفروا، أستاذ الحضارة الإسلامية في عدة جامعات أوروبية، بعنوان "التصوّف: طريق الإسلام الجوّانيّة" وصدر قبل عدة سنوات عن "مشروع كلمة" في أبو ظبي، بترجمة عربية أنجزها الأستاذ الجامعي التونسي، أبو يعرب المرزوقي.
ورأت إحدى هذه القراءات أن جوفروا قدّم للمكتبة العالمية عملاً أنطولوجياً مركزاً، حاول في ثناياه مقاربة مفهوم التصوّف وتعريفه من خلال تتبع شتى مراحل تطوره وانتشاره في العالم الإسلامي، فضلاً عن التعريف بأهم العقائد التي نشأ عليها وأهم أعلامه قديماً وحديثاً.
وفي نهاية المطاف يؤكد جوفروا أن التصوّف بهذا القدر أو ذاك هو وريث النزعة الروحية الإنسانية أو النزعة الكونية في الإسلام.
بعد هذه القراءات، قادتني الغوغلة إلى عثمان أمين.
وبموجب موقع "فلاسفة العرب"، عثمان أمين (1905- 1987) هو أحد رواد المدرسة الفلسفية (العربية) الحديثة التي أنشأها الشيخ مصطفى عبد الرازق، وهو معروف بالاتجاه نحو الروحية أو الذاتية من خلال فلسفته المسماة "الجوّانيّة".

اقرأ أيضاً: عن الشاعرية

وقد اهتدى أمين إلى فلسفة "الجوّانيّة" بعد إطالة النظر في أمور النفس، ومتابعة التأمل في بطون الكتب. وهي فلسفة تحاول أن ترى الأشخاص والأشياء رؤية روحية، تنظر إلى المخبر ولا تقف عند المظهر، وتلتمس الباطن دون أن تقنع بالظاهر، وتبحث عن الداخل بعد ملاحظة الخارج.
وهي تحاول أن تزاوج بين الذات والموضوع، وأن تجمع بين العقل والقلب، وأن تؤلف بين النظر والعلم، وتدعو في سير الفكر وسلوك الحياة إلى خلوص النية، واستواء السرّ والعلن، ومجانبة الرياء والتظاهر، وتعتد في تربية الشخصية وتهذيب النفس بالقدوة الحسنة والمثل الطيب، اعتقاداً منها بأن تأثير الأفعال أشد وقعاً من تأثير الأقوال.
و"الجوّانيّة" عنده فلسفة ثورة تحقّق أمرين لا بُدّ منهما في مرحلة تطورنا التاريخي: الأول، العودة إلى ماضينا ومراجعته؛ الثاني، الاتجاه نحو المستقبل والإعداد له.
ولا تتعارض "الجوّانيّة" عنده مع العقل والعلم، بل تصاحبهما إلى نهاية الشوط، ثم تجاوزهما إلى الذوق الصوفي، لتكشف ما لم يستطيعا الوصول إليه، وهي من الدين وإليه، بل إنه صرح بأن هذه الفلسفة نبتت عنده من تأمل روح الدين، والأخلاق عامة، ومن تأمل آيات القرآن وأحاديث الرسول محمّد.
وقد ضمّن عثمان أمين هذه الفلسفة كتاباً بعنوان "الجوّانيّة أصول عقيدة وفلسفة ثورة" عالج فيه تطبيقاتها في ميادين عديدة، في فلسفة اللغة، وفي الأخلاق الإسلامية وفي رسالة الأمة العربية.
وكانت ثمة نتائج أخرى لا يتسع لها هذا المقام. وبالأحرى أفضِّلُ أن أستنكف عن استعراضها حتى لا يتم إدراجي ضمن الذين يقتاتون على الحنين إلى أيام خوالٍ.
ففي نهاية الحوار مع ميكيل، وردّاً على سؤال حول تقييمه لحالة "الانفلات" التي يعيشها العالم العربي الآن، قال إنه في ظلّ غياب تاريخ ديناميكي وفاعل، يقتات العرب اليوم على حنين إلى عصرهم الذهبي، أو على حنين إلى نقاوة الإسلام غبّ بداياته. وأشار إلى أن "الانفلاتات" التي تعيشها المجتمعات العربية حالياً، والتي أدّت فيما أدّت إلى الانهيار وإراقة الدماء وتكميم الأفواه والنزوح المستدام، تأتي لتعمّق من جراح هذا الحنين.
ومع ضرورة عدم استفظاع الحنين، إلا أنه سيكون نأياً عن الاشتغال بالجوهري، إذا لم ينطلق من وجهة نظر فحواها أن ما ينطوي عليه من مراجعة لوقائع الفكر والحياة لا تقتصر على مرحلة تاريخية سابقة يمكن التغنّي بها فحسب، بل أيضاً كون هذه المراجعة بمثابة تحفيز لمواجهة تمتد إلى الزمان الراهن.
بالتأكيد لا تعدم الثقافة والفكر العربيان عديد الأصوات، التي تطرح مقاربات نقدية وتقوم بدورها في قدح زناد التفكير وتجديد السؤال مفترضة أن الأقوال تقود إلى أفعال.
المساهمون