"الإعلام الإسرائيلي": شراكة الجريمة

16 نوفمبر 2015
مجزرة كفر قاسم 1956، سامية حلبي (2012)
+ الخط -

لم يسقط الإعلام العبري يوما، حتى قبل النكبة وإقامة "دولة إسرائيل" على أنقاض فلسطين، في "فخ الموضوعية الصحافية والرسالة المهنية" بل اجتاز بامتياز مقتضيات وشروط التوقعات والمطالب الصهيونية قبل النكبة، والإسرائيلية الرسمية والشعبية بعد النكبة، وانخرط كليا في كل "معارك إسرائيل" منافحا عن فرية الجيش الأخلاقي وطهارة السلاح، حتى عندما كان السلاح معمدا بالدم الفلسطيني.

يعني هذا أن لا مجال هنا للحديث عن وهم موضوعية ومهنية إعلام أثبت في كل مرة أنه جزء لا يتجزأ من منظومة الاحتلال وأدواته.

في تغطيته لأحداث الانتفاضة الفلسطينية الحالية، تراجع الإعلام الإسرائيلي في الأيام الأولى من انطلاق الانتفاضة عن محاولات الخروج عن السرب الإسرائيلي والتغريد خارج ما تهواه المؤسسة الإسرائيلية السياسية والأمنية وإن كان وقع لاحقا في معضلة ترجيح رواية من على من، هل يرجح رواية الأجهزة العسكرية والأمنية، أم يرجح رواية الحكومة الإسرائيلية بكل عناصرها الدعائية والديماغوغية؟

لعله من المفيد قبل الخوض في المصطلحات الرسمية التي يستخدمها الإعلام الإسرائيلي، الإشارة إلى أن الصحافي الإسرائيلي الذي كان سباقا في إطلاق تعبير الانتفاضة الثالثة، وهو ناحوم برنيع في مادة نشرها في الثالث من تشرين الأول/ أكتوبر، أي بعد أسبوع من عملية بيت فوريك، كان أول من تراجع عن "تعبيره" وصحح مسار خطابه الإعلامي بعد خمسة أيام، يوم الأربعاء الموافق 9 تشرين الأول/ أكتوبر، عندما استخدم تعبير أنها موجة إرهاب.

وتبعه المحلل العسكري في صحيفة هآرتس، عاموس هرئيل، الذي بدا وكأنه نادم على سبق برنيع له، لأنه اكتفى بتعبير موجة عنف، لينضم بذلك إلى برنيع وغيره من المحللين الذين تقبلوا خطاب الحكومة الإسرائيلية ممثلا بتوصيف رئيسها بنيامين نتنياهو، ووزير أمنه موشيه يعالون، للانتفاضة بأنها "موجة إرهاب" وإن كانوا واصلوا في بدايات الانتفاضة التساؤل عن أسباب إحجام الجيش وأجهزته الأمنية عن استخدام تعبير الانتفاضة، معللين ذلك بأن الاعتراف بواقع الانتفاضة سيلزم إجراءات أخرى تشتق من مجرد التعريف الرسمي للأحداث.

وإذا كان بمقدور المحللين العسكريين، والسياسيين المرتبطين بفعل تخصصهم المهني بالدوائر السياسية والأمنية، المناورة بين الاختلاف في التقديرات والتحليلات لكل من الجهاز العسكري والسياسي، فإن التغطية الإخبارية الجارية للأحداث كانت في واقع الحال تبنيا مطلقا لرواية المؤسسة الإسرائيلية العسكرية والأمنية، كما المؤسسة السياسية.

تجلى ذلك في الشق السياسي مثلا بترويج الإعلام الإسرائيلي وتلقفه لكل حملات التحريض التي شنها نتنياهو ووزراء آخرون في حكومته ضد السلطة الفلسطينية والحركة الإسلامية بقيادة الشيخ رائد صلاح، ونواب التجمع الوطني الديمقراطي في الكنيست.

أما في الشق العسكري والأمني، فقد تبنى المحللون كل روايات الجيش بخصوص عمليات الإعدام الميدانية وظروفها وملابساتها، ولم يشذ عن القاعدة في هذا المجال سوى غدعون ليفي وعميره هيس في هآرتس، اللذين نشرا أكثر من مرة تحقيق يؤكد كذب رواية الجيش، كما في حالات الشهيد فادي علاونة والشهيدة هديل الهشلمون، مع إبرازهما في هذا السياق فقط موقف الأجهزة الأمنية الإسرائيلية بشأن فوائد استمرار التنسيق الأمني بين الأجهزة الفلسطينية وبين الاحتلال الإسرائيلي، مقابل ادعاءات نتنياهو بشأن دور السلطة الفلسطينية في التحريض على "العنف" و"الإرهاب".

ومن المناسب هنا الإشارة إلى الخطاب الإعلامي العام الذي يسيطر على وسائل الإعلام الإسرائيلية فيما يتعلق بتبني مصطلح "إبطال مفعول" منفذ العملية بديلا عن تعبير قتل منفذ العملية، لتغييب واقعة قتل منفذ العملية، وإزاحة واجب السؤال هل كان بالإمكان أصلا إحباط عملية الطعن مثلا دون إعدام وقتل منفذها، خاصة أنه في بعض الحالات، كما في حالة الشهيد فادي علاونة، ثبت زيف ادعاء الاحتلال، كما أنه في حالة الفتاة النصراوية إسراء عابد التي أطلق الجنود النار عليها بحجة تنفيذ عملية طعن، تبين لاحقا أن رواية الاحتلال غير صحيحة، أو كما في حالة الشهيدة هديل الهشلمون.

لكن دور الإعلام الإسرائيلي لم يقف فقط عند تبني مصطلحات المؤسسة الرسمية وعدم التشكيك في روايتها، بل إن ترويجه في الأسبوعين الثاني والثالث للانتفاضة لدعوات المسؤولين الإسرائيليين، بدءا من "وزير الأمن" يعالون، و"رئيس بلدية" الاحتلال في القدس المحتلة نير بركات، لحمل السلاح، دون انتقاد والإشارة لمخاطر ودلالات هذه الدعوة، التي رافقتها دعوات لضرورة إعدام وقتل كل من يحاول تنفيذ عملية، جاءت بعد بث الإعلام الإسرائيلي نفسه لأجواء الهلع الهستيري والادعاء بأن "المخربين" وحاملي السكاكين ينتظرون في كل زاوية وعند كل مفترق طرق أو مدخل محل تجاري، أو حتى حافلات الباصات.

وقد ساهم هذا الدور الذي اقترن فقط بـ"انتقادات لأداء الحكومة" على فشلها في توقع الانتفاضة وفشلها في مواجهة نشطائها عبر تغييب كامل للسبب الرئيسي لها وهو بقاء الاحتلال، ساهم في "استساغة" الإسرائيليين وقبولهم كأمر مفهوم ضمنا عمليات الإعدام الميدانية التي ينفذها جنود الاحتلال، ومعهم أيضا عناصر المستوطنين، دون أي تشكيك بروايات الاحتلال حول ظروف الإعدام الميداني، وما إذا كان الشهيد فعلا شكل خطرا على المستوطنين أو الجنود.

واستعاض الإعلام الإسرائيلي عن إبراز كون الاحتلال المسبب الرئيسي للانتفاضة، بالعمل على البحث عن أسباب اجتماعية- اقتصادية تتحدث، في حالة القدس المحتلة مثلا، عن إهمال سلطات الاحتلال للأحياء الفلسطينية في المدينة، وعن حالة الإحباط واليأس من "فرص التوصل لتسوية سلمية واستئناف المفاوضات"، مع إشارات خجولة إلى ممارسات المستوطنين وعصابات "جباية الثمن" الإرهابية، وإلى نشاطات أوساط في الحكومة كالوزير أوري أريئيل في عمليات الاقتحام المتواصلة للمسجد الأقصى، بصفتها مؤشرات اعتبرها الفلسطينيون دليلا على نوايا التقسيم الزماني والمكاني للمسجد الأقصى.

(صحافي فلسطيني/ حيفا)

المساهمون