في الجدل الدائر حول قانون ازدراء الأديان في عدد من البلدان العربية، يُختزل المشهد كأنه تمثيل لصراعٍ مستجد بين قوى محافظة وأخرى تُصنّف عادةً بأنها "ليبرالية" أو مُغرّبة عن مجتمعها؛ بينما تعمد السلطة – بدرجة أساسية- إلى التعمية على حقيقتين تتعلّقان بتشكّلها عبر التاريخ وتوظيفها الدائم للعقائد على نحو انتقائي خدمةً لمصالحها.
الحقيقة المغيّبة الأولى تتمثّل بعودة النقاش في المنطقة العربية، مثلاً، حول نشأة الكون وماهية القوى "الخارقة" والطقوس التي وُجدت لتجنّب عقابها إلى آلاف السنين، وكان التوافق حول تفسير معيّن لهذه الأسئلة الكبرى مؤقتاً وعابراً، ويُفرض عادة بفعل المؤسسة الحاكمة (بتطّورها تاريخياً)، التي قد تتبنّى معتقداً يُخالف ما يؤمن به نظام وشعب مجاور، وكثيراً ما جسّد الدين عصب الدعاية في النزاعات بين القبائل/ الأمم ووسيلة "مثلى" لتعبئة المتحاربين، رغم أن ملكية الأرض وثرواتها ثم المصالح الناشئة حولهما كانت أساساً لنشوب الحروب.
اختلف الناس بين حوضي الرافدين والنيل على فكرة "الخلق"، مع تشابهات واستنساخات بينهم في تفاصيل عديدة، وحول الآلهة وطبيعتها؛ متعددة أو واحدة أو بأقانيم ثلاثة، وتبدّل إيمانها بهذه الطبائع من فترة إلى أخرى، وتشير المصادر والروايات إلى تواصل السجالات بين فلاسفة المنطقة وحكمائها، حتى تنحاز السلطة إلى رؤية محددّة يترتّب عليها قمع المعارضين لها وتعرّضهم للإقصاء والتهميش وصولاً إلى التصفية الجسدية، غالباً.
حدث ذلك في المجامع المسكونية حين تحوّلت مناظرتهم حول "طبيعة" المسيح بعد ثلاثة قرون على انتشار المسيحية إلى جزء من صراع سياسي حول الحكم داخل الإمبراطورية الرومانية –نشب بسبب تنافس داخل الجيش- إلى أن حُسم إلى طرف احتكر تصوّره للإيمان، وتتابعت متتالية الصراعات الدينية/ السياسية حين انتقلت المسيحية إلى أوروبا.
لم يختلف السياق في التاريخ الإسلامي، حيث انزاح الاختلاف حول مسائل فلسفية بعد قرنين على انتشار الإسلام (أبرزها المعتزلة والتصوّف وإخوان الصفا) إلى قتال على السلطة كان أسبق في نشوئه، بحسب جميع المرويات التاريخية.
الحقيقة الثانية أن التصوّرات المحتكِرة لـ"الإيمان" لم تكن خلاصة منطقية وموضوعية للجدل الذي شهدته المناظرات في المساجد (لتأسيس المدارس فيها) أو الأسواق والقصور، إنما جاءت نتيجة فرض المؤسّسة الرسمية لها، بل يمكن القول إن التصوّر/ التّصورّات الحالية حول الإسلام أتت متأخرة ابتداءً، وأنّها وُضعت أصلاً لشرعنة الأنظمة المتعاقبة وعُممّت بقوة القانون ومنظومته العقابية، وأنها ليست ثابتة أو مستقرّة وستتبدّل مع تغيّر السياسة وقوانينها الآن ومستقبلاً.
وعليه، يجدر التساؤل عن معنى "ازدراء الأديان"، إذا كان القاضي والمتهم والشهود محكومين لسلطة تحتكر القرار والثروة والمعرفة، وتترك مواطنيها يختلفون على شكل إيمانهم.