بهذه الروح يمكن أن يستقبل حكم المحكمة الاستعمارية من قبل شابة في الثامنة عشرة من عمرها، اختطفت مع رفاقها الثلاثة طائرة سابينا البلجيكية عام 1972، لتنزل في مطار اللد، بهدف إجبار الاحتلال على الإفراج عن السجناء، وبمثل هذه الروح ينطلق المقاتل نحو الفعل المباشر. لا تصل المقاومة إلى ذروتها المسلحة إلا محمولة على الجمل القصيرة اللازمة للاشتباك، والواضحة في البصر والبصيرة.
هل أنت مذنبة أم غير مذنبة؟ يسألها القاضي، فتجيب: لست مذنبة. يسأل: إن لم تكوني مذنبة، فماذا تكونين؟ تجيب: أنا هنا متهَمة.
وعليه، ظلت تيريز هلسة واضحة من دون أي شحوم بلاغية، حتى رحيلها قبل أيام، يوم الثامن والعشرين من مارس/ آذار الماضي، وتحكي بسرد مبسط يقبل به الأمي والعارف، كما بدت وهي متربّعة على فرشة، وأمامها دلة القهوة العربية، لتحكي للمخرجة عرب لطفي حكايتها التي ستظهر في فيلم "احكي يا عصفورة".
قضت تيريز عشر سنوات في السجن، قبل أن تخرج في عملية تبادل أسرى عام 1983. والتقتها المخرجة عام 1993 مع ست مناضلات ضمهن الفيلم، وهن: ليلى خالد، وعائشة عودة، ورسمية عودة، ورشيدة عبيدة، ووداد قمري، وأمينة دحبور.
تقول عرب لطفي "خصوصية فيلمي هذا في أنه سردية نسائية واثقة وغير معتذرة، بل وفخورة. سردية تحكي عن تاريخ شكل حلم جيل السبعينيات، في الوقت الذي تحاول فيه مدارس التوثيق السائدة حالياً طمس روح هذه التجربة".
اختارت المخرجة أيضاً أبسط الحلول التي تلائم فكرة "احكي يا عصفورة". الرهان الذي يكسب هو أن تترك الإنسان يحكي سرديته العزيزة. لذلك كانت المشاهد بيتوتية، وسهلة العبور على مدار 92 دقيقة، تصل بينها موسيقى التشيلو جرّاً، ونقراً على الأوتار، وتغنيها المواد الأرشيفية المرافقة للشهادات.
هذا التبسيط هو المدخل الأمثل في التراث الحكائي. بمعنى أن التي تحكي لا تؤدي دور العصفورة، بل إن هذا الطائر هو إحدى الاستعارات التي يبدأ البشر منها سردهم، كما في المثال الفلسطيني الأشهر، كتاب "قول يا طير" الذي صدر عام 1989، باللغة الإنكليزية أولاً Speak, Bird, Speak Again، وفي العنوان الإنكليزي لفيلم عرب لطفي Tell your tale little bird.
وفي كل لغات العالم، يكون على الناس إذا ما سردوا الحكاية، أن يحافظوا على مستوى قريب من حكاية تيريز، منذ كانت طفلة، تلعب على المرجيحة مع رفاقها في عكّا، وحين يأتي "يهودي" يبلغها الحارس أنْ توقّفوا عن اللعب.. انتهى دوركم. فتسأل البنت: لماذا انتهى دوري؟
هكذا حين تنفذ عملية فدائية وهي في الثامنة عشرة، تسأل لماذا منظمة التحرير تمدد مهلة المفاوضات وهم داخل الطائرة التي خطفوها، منحوا ست ساعات لتلبية مطالبهم؟ إن طريقها واضح في الميدان.
هي تحاول تفهم ذلك بالقول إن القيادة تمدد ربما لأسباب إنسانية، لكن العملية فشلت بسبب مد الساعات مرة تلو مرة، حتى تمكن الكوماندوز الإسرائيلي، وبتواطؤ الصليب الأحمر، من اقتحام الطائرة. هي من كانت في الميدان.
استشهد الرفيقان علي أبو سنينة، وزكريا الأطرش، واعتقلت هي، ومعها ريما طنوس. أصابت رصاصة طرف عينها، واخترقت أخرى كتفها، وتلقت طعنة بحربة جندي.
هكذا هي حين تمضي إلى عملية فدائية. قد يتوقف سردها الذاتي مع موتها في المعركة، لتكون الحكاية باختصار كما توردها في الفيلم: نحن ذاهبون ونعلم أننا سنموت.
لكن الحياة تمنح المزيد في السجن، وتحت التعذيب. لا سلاح لدى الفرد الأعزل سوى الأمل، ما دام على قيد الحياة، ويرى من سجنه سجن شعبه الأكبر.
في عام 2005 التقيت تيريز هلسة في الدوحة، وتعرفت أيضاً إلى المناضلة عائشة عودة التي حكمت مؤبدين وعشر سنوات، بعد مشاركتها في عملية تفجير السوبر سول في القدس الغربية عام 1968. كان ذلك حين شاركتا في برنامج "للنساء فقط" على قناة الجزيرة.
قالت تيريز إن لديها مشكلة في أعصاب يدها، حتى إن فنجان القهوة أو السيجارة يمكن أن يقعا دون أن تنتبه.
ضرب الغاز
ظننت أن ذلك بسبب الرصاصة التي فتتت عظم كتفها. بيد أنها في الفيلم تحكي عن الغاز السام والحارق، الذي يبدو العامل الأعمق، وقد ظل يؤذيها ببطء.
حين يعلم الاحتلال بأن ثمة حراكاً داخل السجن، وأهمه الإضراب، يتخذ عدة إجراءات عقابية.
من السهل الانقضاض على سجناء بالهراوات. لا أحد يتخيل أن إطلاق الغاز سهل، إلا إذا استحضرنا نموذج النازي، وضحاياه الذين ينكلون بالفلسطيني بالأدوات ذاتها.
قالت إنهم أطلقوا الغاز من الباب وهرب سجناء نحو الشباك، فووجهوا بالغاز.
تحدثت عن الأثر الذي تركه ذلك وفي سجن محكم الإغلاق، حتى إنهم لم يغسلوا شعرهم لمدة شهرين. وكان مجرد المرور على فروة الرأس بالمشط يسبب ألماً حارقاً.
جاءت بعد شهر، المحامية الإسرائيلية فيليتسيا لانغر، المعروفة بدفاعها عن الفلسطينيين، وما إن سلمت على السجناء حتى شعرت بحكة في يدها وسيلان دموع، فغادرت مسرعة إلى الطبيب الذي أخذ عينة، وأخبرها أن هذا غاز سام حارق.
عقب شهر، تكون النتيجة غازاً ساماً وحارقاً، فكيف حال من عاشوا في السجن طوال هذه المدة؟
أما الصليب الأحمر، كما تواصل القول، فقد عاين من بعيد حال السجناء، ولم يقترب منهم خشية من التسمم.
تعدد تيريز أسماء رفيقات السجون في تلك الفترة ومنهن رسمية عودة وعائشة عودة، ومريم شخشير وروضة بصير، وسهام البرغوثي، وزهيرة كمال.
Facebook Post |
لكل واحدة منهن وغيرهن حساسيتها في السرد، لكن ما يجمعهن دائماً هو أن هذا الظلم، ملخص في سؤال: كيف له أن يقع ببساطة، دون أن يكون الرد عليه واضحاً؟
بالخبزة الصغيرة استطاعت تيريز تقدير الزمن في سجنها.
كانت تخضع للتحقيق 16 ساعة، ثم تترك لتنام، ويفاجئها بعد وقت قليل محقق، ليقول لها إنه نام سبع ساعات، وهذا يعني أنها نامت ما يعادل هذا الزمن.
لكنها تقرر، وهي تحت أضوية ساطعة تؤدي للجنون، تقدير الزمن، من خلال خبزة اقتطعتها من وجبة الطعام، وتركتها جانباً، فإذا وجدتها جافة فهذا يعني أنها نامت ساعات، وإن كانت طرية، فهذا يعني أن السجان يريد سحقها تحت إرهاق مبرمج.
بمقاطع من رواية "برقوق نيسان" التي لم تكتمل مع استشهاد مؤلفها غسان كنفاني 1972، تتشارك تيريز هلسة ورفيقاتها في الفيلم الأرض ذاتها. في بيت إحداهن، اجتمعن كلهن حول إبريق الشاي. كان هذا في مطلع التسعينيات.
هنّ الآن في السبعينيات من أعمارهن، ما زلن يعشن كما عنوان كتاب عائشة عودة "أحلام بالحرية"، وكما عاشت تيريز هلسة حتى آخر يوم.