"إنفورماسيون" الدنماركيّة تروي مجزرة الغوطة الكيميائية قبيل ذكراها: "أسوأ جرائم حرب عصرنا"
"اتبعت الصوت في عتمة الشقة، حيث وجدت طفلاً. كان يتقلب على الأرض بجانب سريره ويكافح لاستنشاق الهواء، كان يشهق، لكن ذلك لم يساعده، أصبح أزرق الوجه"... هذه الجمل كانت كادراً عريضاً في الصفحة الأولى لصحيفة "إنفورماسيون" الدنماركية، واختارته عنواناً بالأخضر يحتل مكان نجمتي علم سورية النظامي، بينما الأحمر مغطى بقذيفة كيميائية. أما في الأسود، فإشارة إلى تاريخ لن ينساه السوريون: "مجزرة الغوطة، من المسؤول؟".
مرة جديدة، فاجأت صحيفة "إنفورماسيون" الواسعة الانتشار في الدنمارك، القراء، فلم تترك يوليو/تموز يغادر من دون أن ترسل منه سؤال البابلي عن انبعاث الحياة. وفي يومه الأخير تخصص جلّ صفحاتها لسؤال "من الذي سيُحاسَب على مجزرة الغوطة؟".
سؤال الصحيفة، ربّما وُضِع في السياسة على رفوف أخرى، وبأصوات مخنوقة، غير تلك التي انطلقت في قيظ صيف دمشقي قبل 4 أعوام، لكنه لا ينسى في صحافة لا تخشى سوى مهنيتها وحريتها.
تذهب "إنفورماسيون" لتعيد سرد الأجوبة على سؤالها، بعدد من المواضيع التي حملت شهادات ناجين، وخبراء وقانونيين، ووثائق وشهادات الضحايا، عن "مذبحة الغوطة الكيمياوية"، بسؤال أساسي عن سورية "أنحن أمام أسوأ جرائم حرب في عصرنا؟"، لتعد القراء بالذهاب في شهر أغسطس/آب بتحقيقات استقصائية: "الأول: السلاح الكيميائي، ثانياً: حصار وتجويع وقتل المدنيين. ثالثاً: التعذيب، القتل، الاختفاء. ورابعاً: الهجوم على المشافي وعمال الإغاثة".
لكن الصحيفة اختارت في عدد الاثنين، أن تفتتح صفحاتها "نصف مليون إنسان مدني فقدوا حياتهم، نصف الشعب مشردًا في المنافي، النظام السوري متهم بأفظع جرائم حرب في عصرنا الحديث ضد المدنيين السوريين".
ولوضع القارئ أمام ما اختارته له، ذهبت الصحيفة لتفصل في تأثير "غاز السارين" على البشر، وخصوصاً الاختناق والانقباضات المرافقة لموت فظيع، فتعرض الشرائط والصور وانفوغراف وساعات ما قبل وبعد هجوم الغوطة، مذكرةً القراء "غاز السارين طُور في ألمانيا النازية 1938"، إشارةً ربما إلى توحش يستنبط القاتل وحاشيته منه قبل 9 عقود، لتضيف إلى مخيلة القارئ "نقطة كافية لقتل شخص بالغ، في الغوطة وُثق جيداً قتلُ ما يربو على 1400 إنسان في هجوم 21 أغسطس/آب 2013. الخبراء يشيرون إلى النظام السوري". فتحذر القراء من "مشاهد صعبة" بعرض صور الأطفال بجثثهم المصفوفة بعناية وشرائط الاختناق ومحاولات الإنقاذ بفظاعة ربما لم يعتد القارئ الغربي على تلقيها.
ديب معتوق، شاهد سوري من الغوطة، نجا من المذبحة، وأصبح لاجئاً في الدنمارك، فراحت شهادته تنقل مشهد اللجوء أيضاً إلى سببه الأول. يخبر معتوق عن شهادته في مقتل وجرح جيرانه، ومحاولات إنقاذ الضحايا الذين استنشقوا الغاز، ونقل بعضهم إلى مستوصف بسيط في المعضمية. 5 أيام مرت، بشهادة معتوق، قبل أن يأتي أي أحد من خارج المناطق المقصوفة بالغاز "حضر البعض من الأمم المتحدة إلى حيّنا حيث جرى تفحص مكان القصف، وأخذوا عينات دم من الضحايا، لكنهم لم يكونوا قادرين على مساعدتنا بشيء، ولا حتى بنقل الجرحى إلى المشافي، فقد أخبرونا: تلك ليست مهمتنا، طلبنا مياه شرب وشوكلاته للأطفال المصابين، ولا حتى تلك ساعدونا بها". وفي وسط التقرير، تضع الصحيفة ما يوثق بالصورة وجود "قبعات زرقاء" يضعون كمامات ويأخذون عينات.
وتقول الصحيفة "بيد أن البروفسور السويدي، أوكا سيلستروم، الذي قاد 14 شخصاً من فريق الخبراء الدوليين، استطاع أن يفعل شيئاً لديب معتوق والضحايا. لقد أثبتوا أن الحي المدني المزدحم بالسكان تعرض حقاً لهجوم بالأسلحة الكيميائية، والسلاح المستخدم هو السارين، ووصفوا شهادتهم بما شاهدوه بتوسع حدقات عيون الضحايا وسيلان الأنوف وتقيّؤ وإسهال وتشنجات وصعوبات بالتنفس... ثم الموت اختناقاً".
وبدون تردد، تعيد الصحيفة التذكير "في تقريره لمجلس الأمن خلص البروفسور سيلستروم إلى أن أدلة واضحة ومقنعة على أن صورايخ أرض-أرض احتوت على غاز الأعصاب سارين أطلقت على عين ترما وزملكا والمعضمية في غوطة دمشق، في الصباح الباكر من 21 أغسطس/آب 2013، لقد تم استخدام سلاح كيميائي ضد المدنيين السوريين". وفي تقريره الذي سلمه للأمين العام للأمم المتحدة السابق، بان كي مون، عبر الخبير السويدي عن "القلق العميق من هذه النتائج" في 13 سبتمبر/أيلول 2013.
وبنقل شهادة سيلستروم اليوم، تقول الصحيفة "إن الرجل محبط اليوم لأنه لم يستطع القيام بشيء أكثر تجاه هجوم الغوطة"، حيث كانت ولايته محدودة. ويقول سليستروم لـ"إنفورماسيون": "لقد ارتكبت جريمة ضد الإنسانية، لم تكن مهمتنا أن نتهم جانب مذنب".
وبالرغم من ذلك تذكر الصحيفة بأنه "جرى جمع الأدلة والوثائق المهمة لملاحقة المذنبين، فقد جمع سيلستروم وفريقه بقايا الصواريخ المستعملة وهي أدلة أخرجت لتستخدم في المحاكمات القادمة".
وبشرح تقني، ونوعية الصاروخين وما احتوياه من 60 ليتراً من السارين في كل صاروخ، واتجاهات القصف باتجاهات شرق وجنوب شرق تبين الصحيفة بأنه "ورغم أن سيلستروم لم يكتب من هو المذنب، إلا أنه شرحٌ يشير إلى مكان القصف من مناطق النظام، وتحديدًا من مناطق قوات الحرس الجمهوري، وبالنسبة للصاروخ الموجه نحو المعضمية فقد احتوى على عبارات تشير بشكل واضح إلى أنه صُنع في الاتحاد السوفييتي سابقاً أو في روسيا، حليف النظام الوثيق".
عرجت الصحيفة على شهادات منظمات دولية حقوقية، وصحافيين استقصائيين متخصصين بالسلاح ونوعيته، وعلى تقارير "أطباء بلا حدود"، لتعيد توثيق ما جرى صباح ذلك اليوم قبل 4 أعوام. ولم تترك الصحيفة بالطبع روايات اتهام المعارضة السورية بالقصف، وأعادت التذكير باتهام سيمور هيرش لجبهة النصرة سابقاً، وبأن الولايات المتحدة تعرف ذلك لكنها صمتت عن الأمر. وبما خرج به مختبر تيسلا من أسئلة مفتوحة عن مدى الصواريخ المستخدمة. لكن "إنفورماسيون" عادت لتذكر بما قاله الخبراء في السلاح والسلاح الكيميائي في الغرب عن مسؤولية النظام السوري وتحليل الموقف بتسليمه سلاحه الكيميائي بوساطة روسية.
وتعود الصحيفة لتؤكد على لسان خبراء كثيرين "لم يكن هجوم الغوطة هو الأول ولم يكن الأخير بالسلاح الكيميائي فقد استمر إلى قبل فترة قصيرة في الرابع من أبريل/نيسان الماضي في خان شيخون، حيث قتل 100 شخص في المنطقة التي تسيطر عليها المعارضة بإدلب، وكل الشكوك أثبتت بأنه أيضاً غاز السارين، وما زالت الأمم المتحدة تبحث القصف الذي تم هذه المرة بطائرة لا يملكها سوى النظام وحليفه الروسي والتحالف الدولي ضد داعش".
وتضيف الصحيفة على لسان خبراء دوليين أن "جريمة الحرب ضد المدنيين يحددها البند 7 في نظام روما الأساسي، كأساس للمحكمة الجنائية الدولية في لاهاي، وبالرغم من أنه بقي سرياً حتى الآن اسمُ من أعطى الأوامر بقصف السارين على الغوطة، إلا أن الخبراء في الشأن السوري يتفقون على أن القرار يتخذ من القمة في سلطة نظام سورية المركزي". مع تذكير الخبراء "السارين لا يمكن لأي كان أن يصنعه ويخزنه، ومن يملك القدرات واضح ومعروف". وبشهادة الميجر جنرال الدنماركي، خبير السلاح الكيميائي والبيولوجي، كلاوس فيرنر ميكلسن "في محكمة لاهاي يمكن تحديد المسؤول، وإن كان البعض يقول بأن القوات الحكومية ليست هي من قصف، فلم نرَ إثباتات لهذا القول أو عكسها".