"إقالة" هيغل.. تخبط أوباما في سورية
لم تَنْطَلِ "مسرحية" الإعلان عن "استقالة" وزير الدفاع الأميركي، تشاك هيغل، على أحد، حيث إن جميع المراقبين في الولايات المتحدة يدركون أن ما جرى كان عملية عزل للرجل من الرئيس، باراك أوباما، الذي جاء به إلى المنصب، قبل أقل من عامين.
إقصاء هيغل بهذه الطريقة الفجة، والتي شملت اتهامات له من مسؤولين رفيعين، مجهولي الهوية، بضعف الأداء، يأتي في سياق استمرار تخبط إدارة أوباما وانقساماتها في الملفّين، العراقي والسوري، والحرب التي أعلنتها على "تنظيم الدولة الإسلامية" (داعش). وليس سِرّاً أن أوباما، والدائرة الضيّقة حوله، من المستشارين المدنيين، يقاومون ضغوط القادة العسكريين لتوسيع مستوى انخراط الولايات المتحدة في الحرب على جبهتي العراق وسورية، تحديداً.
ففي حين أن أوباما متمسّك بوعوده الانتخابية بأن ينهي أكثر من عقد من الحروب التي أشعلها سلفه، جورج بوش، ويرى أن الأمر يتعلق بإرثه الرئاسي، فإن جنرالاته، في المقابل، يطالبونه، الآن، بضرورة إعطائهم كل ما يحتاجون إليه لتحقيق نصر عسكري حاسم، في حربٍ هو نفسه من أعلنها. أوباما، المقاتل المتردد يريد أن يحصر حربه بضربات جويةٍ، وبالقيادة من الخلف، عبر تحالف دولي فضفاض، ويكافح لكي لا يضع قوات أميركية مقاتلة على الأرض، غير أن استراتيجيته المعلنة، يبدو، إلى الآن، أنها لا تعمل بالشكل والسرعة المطلوبين، خصوصاً في غياب "شريك يمكن الاعتماد عليه" في سورية، وترهل القوات العراقية. وهكذا، وجد أوباما نفسه وجهاً لوجه أمام قياداته العسكرية، وتحديداً، رئيس هيئة الأركان، الجنرال مارتن ديمبسي، الذي أغضب البيت الأبيض، غير مرة، بتلميحاته المتكررة عن احتمال طلبه قوات أميركية مقاتلة على الأرض، غير التي تلعب دوراً استشارياً، أو تدريبياً. وبسبب هذا الخلاف الذي خرج إلى العلن، كانت التضحية بهيغل.
عندما رشح أوباما هيغل، ليكون وزير دفاعه، مع بدء فترة رئاسته الثانية، مطلع عام 2013، فإنه كان يرى فيه حليفاً لمسعاه في تقليل جرعات العسكرة في السياسة الخارجية الأميركية. وعزز من قناعة أوباما بهيغل أن الأخير خدم فترتين في مجلس الشيوخ الأميركي، عضواً عن الحزب الجمهوري، وكان أحد الجمهوريين القلائل الناقدين لسياسة إدارة بوش الابن في العراق. وبسبب مواقف هيغل من أسلوب إدارة الملف العراقي، وانتقاده مبالغة إدارة بوش بالاعتماد على القوة العسكرية، في سياستها الخارجية، فإنه طور علاقة قريبة مع عضو مجلس الشيوخ عن الحزب الديمقراطي، في ذلك الحين، باراك أوباما، بشكل أغضب جمهوريين كثيرين.
وفعلاً، لم يخيّب هيغل ظن أوباما، فهو أشرف على خفض ميزانية وزارة الدفاع الأميركية، وساهم بشكل فعال في الانسحاب التدريجي للقوات الأميركية في أفغانستان، وحرص على تنفيذ انعطافة إدارة أوباما نحو منطقة المحيط الهادئ في آسيا، غير أن بروز خطر "داعش" في يونيو/حزيران الماضي، وسيطرتها على مدينة الموصل ومناطق أخرى واسعة في العراق، ثمَّ توحيدها تلك المناطق مع المناطق التي تسيطر عليها في سورية، فرض تحدياً جديداً أمام إدارة أوباما.
في السياق العراقي، لم يجد أوباما مشكلة كبيرة في تحديد موقفه، خصوصاً بعد أن أطيح رئيس الوزراء العراقي السابق، نوري المالكي، شرطاً أميركياً للتدخل ضد "داعش" هناك. صحيح، أن أوباما يعتبر الانسحاب من العراق، أواخر عام 2011، أحد أهم إنجازاته الرئاسية، غير أن عدم وقف تقدم "داعش" كان يعني تلطيخاً لذلك الإرث. ولأن العراق يتوفر على حكومة تعترف بها الولايات المتحدة، فإن أوباما أعلن أن العون الأميركي سيقتصر على التدريب والتسليح والدعم، عبر سلاح الجو للقوات العراقية والكردية، غير أنه اضطر، في مرحلة لاحقة، إلى أن يضع "مستشارين" عسكريين أميركيين على الأرض، ليوجهوا الضربات الجوية، ويعينوا القوات العراقية والكردية في جهودهم للتصدي لتنظيم الدولة.
معضلة أوباما الحقيقية هي في سورية، فهو، وإن كان قد طالب، منذ سنوات، بضرورة تنحّي الرئيس، بشار الأسد، وأعلن، غير مرة، أن المذكور فاقد للشرعية، إلا أنه بقي يصر على أن الحل ينبغي أن يكون سياسياً، وذلك على الرغم من فشل مؤتمرين في جنيف، جراء تعنت النظام السوري. وحتى عندما تجاوز الأسد خط أوباما الأحمر، واستخدم الأسلحة الكيماوية ضد شعبه، في أغسطس/آب 2013، فإن أوباما تراجع عن تنفيذ وعيده، بشن ضربة عسكرية على قوات النظام. أكثر من ذلك، فإن أوباما، دائماً ما عارض تسليح قوات المعارضة السورية "المعتدلة"، على الرغم من ضغوط وزيري خارجيته ودفاعه السابقين، هيلاري كلينتون، وليون بانيتا، ومعهم رئيس جهاز المخابرات المركزية السابق، الجنرال ديفيد بترويس.
ولم تُجْدِ نفعاً كل الضغوط على أوباما، من بعض حلفائه العرب والإقليميين، وفي مقدمتهم السعودية وتركيا، وبدعم من وزير خارجيته الحالي، جون كيري، وهيغل نفسه، بضرورة تسليح "المعارضة المعتدلة" بأسلحة نوعية، وتحديداً صواريخ أرض-جو المحمولة على الكتف للتصدي لطيران النظام الحربي.
تخبّط أوباما هذا، ما بين عدم اعترافه بشرعية الأسد، وفرضه "فيتو" على تسليح "المعارضة المعتدلة"، أحدثَ فراغاً في سورية ملأته "داعش". ومع إعدامها مواطنيْن أميركيين، وإعلان إدارة أوباما الحرب عليها في سورية والعراق، في سبتمبر/أيلول الماضي، جنى أوباما حصاد تخبطه سنوات. فهو قد "اكتشف" فجأة أنه لا يملك "شريكاً" يمكن الاعتماد عليه على الأرض السورية، وأنّ من يستفيد من قصف مواقع "داعش" هو النظام السوري. هذا ما قاله هيغل نفسه في مذكرةٍ بعثها إلى البيت الأبيض، أواخر أكتوبر/تشرين الأول الماضي، مطالباً بوضع استراتيجية للتعامل مع نظام الأسد، الأمر الذي أغضب البيت الأبيض.
وهكذا، انتهى الأمر بهيغل الذي جيء به لينفذ "رؤية" أوباما الضبابية، أن يكون خصماً لها، ووجد نفسه في صف جنرالات وزارته الذين يَشْكونَ من تكليفهم بحرب، من دون أن يعطوا ما يحتاجون إليه للانتصار فيها.
اللافت في هذا السياق، أن ثمة من السوريين من لا زال يراهن على دور لإدارة أوباما في تخليصهم من نظام الأسد وطغيانه، في حين أن مسؤولي إدارته يصرّحون، ليل نهار، إنه لا يوجد بديل عملي للأسد اليوم. إنها الحقيقة المُرَّة التي لا يريد كثيرون أن يعترفوا بها. فتخبط أوباما وتردده في سورية جعل من نكبة السوريين ورقة على طاولة الصفقات الأميركية-الإيرانية المتوخاة. ومن دون تمرد تركيا، والمحور العربي المعارض للأسد، على الفيتو الأميركي، بتسليح الثوار بما يحتاجون إليه، أو سبر غور إمكانية اجتراح صفقة سورية-سورية، لا أميركية-إيرانية، ستبقى سورية في الفوضى المدمرة التي تعيشها، اليوم، سنوات مقبلة.