"إصلاح" اللغة الفرنسية؛ جدلٌ في الهوية؟

15 فبراير 2016
صورة مخطوط بخط ماتيو دريفوس، أهداء لزوجته (Getty)
+ الخط -
يميل الفرنسيون إلى التذمر، هذا طبع أبناء الغال الغالب. وفي تذمرهم هم أدنى إلى الاحتجاج الذي لا يهدأ. وقد ظهر ذلك جليًا مؤخرًا، من خلال الإعلان عن البدء بتطبيق "إصلاح" طريقة الكتابة الإملائية، عند مستهل العام الدراسي القادم. إصلاح، لم يأتِ من فراغ بالطبع، في دولة المؤسسات العريقة، بل جاء نتيجة لجهود الأكاديمية الفرنسية بذاتها، وتوصياتها عن الأمر، توصياتٌ عمرها أزيد من خمس وعشرين عامًا.

اقتراح الأكاديمية يقسم الفرنسيين

الإصلاح، كما أعلنت عنه الجريدة الرسمية بتاريخ 6 ديسمبر/كانون الأول 1990، ظاهرُهُ تعديلات، لا تمس سوى أربعة بالمائة من اللغة الفرنسية، من بينها التخلي عن الشرطة أو الفاصلة بين كلمتين وإلصاقهما أحيانًا، وعدم جعل النبرة المشبعة ضرورية في حرفي العلة i و u، خلا بعض الكلمات التي قد تخلق بلبلة في المعنى. ويبدو، أن ما اقترحته الأكاديمية قسم الفرنسيين ما بين المحافظين وأنصار التحديث. لكن هذا التقسيم بدوره غير ثابت، فالمواقع تتزحزح. وبدا طريفًا كيف أن شبكات التواصل الاجتماعي الشهيرة باختراقها لقواعد اللغة الفرنسية، هي التي هبّت، بسخرية تارة، وبمرارة تارة أخرى لانتقاد الإصلاح الذي أعلنت عنه وزارة التربية الوطنية. في حين أن الأكاديمية الفرنسية المعروفة بمحافظتها، وأحيانًا بـ"رجعيتها"، هي التي وافقت على هذا الإصلاح. مع أنها تقول الآن، إن "الأمر لا يتعلق بفرضه، وإنما باقتراحه"، أي أن الأمر لا يصل إلى درجة "قلب" اللغة، بل"اقتراح رتوش وتعديلات".

توضيح أم تراجع؟

الأكاديمية نفسها عادت قبل يومين إلى توضيح موقفها. فشددت في بيانٍ لها على أنها لم تكن الدافعة لهذا الإصلاح. إضافة إلى أن الأمر، بالنسبة لها، هو إثارة النقاش. مؤكدة أنها "ضدّ أي تبسيط للغة"، وأنها أيدت الأمر "من حيث المبدأ فقط". لكن حين صدر التقرير، دعت إلى الاعتدال والحَذر في تنفيذ الإجراءات المقررة، محذرة من أي فرض حازم لهذه التوصيات. وهو ما يتماشى مع موقفها الدائم، المتمثل في معارضة كل إصلاح يرمي إلى تغيير "متسلّط" للاستعمال. والأكاديمية لم تكن أبدًا منغلقة أمام أي تعديلات يستدعيها تطوُّرُ اللغة، إذ إن مختلفَ طبعات قاموسها تعكس ذلك.

ولا توافق الأكاديمية على كلمة "إصلاح"، لتوصيف ما جرى: "إن ما سُمي إصلاحًا، وهو ليس كذلك، يتعلق بنحو 2000 كلمة، أي ما بين 3 إلى 4 في المائة من اللغة، في حين أن 59 ألف كلمة دخيلة دخلت قاموس الأكاديمية في طبعته التاسعة، قيد الصدور.
والأكاديمية، و"هي على يقين أن الاستعمال لا يمكن أن يتغير بواسطة ظهير (قانون)، وإذ تعلن معارضتها لكل طابع إلزامي في ميدان اللغة، فضّلت، وهي تقدّم هذه التعديلات المحدودة والموزونة، اتّباع طريق التوصيات، ووافقت على الحل الذي يقتضي قبول الصيغتين معًا، أي الصيغة الحالية وتلك المقترحة من قبل المجلس الأعلى للغة الفرنسية. وهنا وافقت الأكاديمية على هذه التوصيات، مطالبة بأن تخضع لاختبار الزمن".

خوف من "الإصلاح"؟

لكن يبدو أن كلمة "إصلاح" تثير الكثير من القلق لدى الفرنسيين، ليس فقط حين يتعلق الأمر بالاقتصاد، بل أيضًا حين يقترب من لغتهم. أي أن ما يريدُهُ الفرنسيون للآخرين يرفضونه لأنفسهم. إذ لا يجب أن يغيب عن أذهاننا، أن الفرنسيين، أو على الأقل النخبة السياسية والفكرية، بمختلف اتجاهاتها، والتي تصفق للاعتراف باللغات الأمازيغية في شمال إفريقيا، لا تريد أي حديث عن لغات إقليمية في فرنسا خارج اللغة الفرنسية الواحدة التي لا تنقسم. ومن هنا تردد الحكومة الفرنسية، منذ سنوات، في الاعتراف بالميثاق الأوروبي للغات الإقليمية أو لغة الأقليات، الصادر سنة 1992، على الرغم من أنه يخصّ اللغات المستخدمة تقليديًا من قبل مواطني الدول الأعضاء، وهو ما يستثني لغات المهاجرين الجدد. وهو ميثاق يرى فيه الكثير من السياسيين الفرنسيين "تهديدا للوحدة الوطنية"، ويحتاج إقراره إلى تعديل الدستور الفرنسي.

لذلك ربما لم يكن غريبًا أن تشتعل شبكات التواصل الاجتماعي حول هذا الموضوع، بين رافض ومندد ومُطلِق بيان توقيعات رافضة، تحت يافطة الدفاع عن التراث وعن الهوية، وبين من يؤيد هذا الإصلاح الذي تأخَّر انبثاقُهُ، تحت يافطة تسهيل اللغة على التلاميذ، وتجاوز "عائق اجتماعي" مزمن.


اليمين الرافض

تميّز فرانسوا بايرو، وزير التربية الوطنية اليميني السابق، برفض هذا الإصلاح، الذي يُقدَّم باعتباره تبسيطًا للغة الفرنسية. وأبدى خشيته من رؤية كتب مدرسية جديدة مكتوب على أغلفتها عبارة "تهجئة جديدة" أو "تهجئة مُعدَّلة"، وهو الذي يعتبر أن قاموس "لاروس" هو أثمن ما يمكن أن يتواجد في بيوت الفرنسيين. وشكك بايرو في نوايا الحكومة، التي تعمل، حسب رأيه، "على اجتثاث اللغتين اللاتينية والإغريقية من مقررات المدرسة"، وهو موقف يذهب إليه مُدرِّسو اللغات القديمة والذين يرون أن هذا الإصلاح يُزيلُ الحاجة إلى العودة إلى الجذر اللاتيني أو الإغريقي من أجل تحديد كتابة الكلمة، ويرون فيه "تبريرًا إضافيًا للتخلي عن اللاتينية والإغريقية"، الذي تعمل على تنفيذه الحكومة الاشتراكية.
ويصل فرانسوا بايرو المعارض للإصلاح، كما هو شأن زعماء سياسيين يمينين آخَرين، إلى خلاصة أن "الحياة والاستعمال وليس المرسوم هو يمنح الحياة للغة وهو من يُغيّرها"، ويعترف بكثير من الانفعال أنه كان في بيونس - إيريس ساعة الإعلان عن تطبيق هذا الإصلاح، وكيف تحوّل إلى حديث النخبة الفرنكوفونية في هذا البلد، والمتأسفة على هذا الخطأ الكبير.
ولم يغب عن الكاتب الفرنسي جان دورميسون من الأكاديمية الفرنسية، والمنضم مؤخرًا إلى سلسلة "لابلياد" الشهيرة، رؤية "تعتيم" في الأمر تمارسه السلطة الحاكمة، ورأى أنه "أسوأ من مشروع قانون التجريد من الجنسية"، و"لا أهمية له".اللغة الفرنسية، كما يقول دورميسون، رائعةٌ بتبايناتها وفخاخها، وهو ما يمنحها جمالها وثراءها.

المساهمون