"أم المعارك" في تونس

28 ابريل 2015

بورقيبة اعتمد على التعليم اختياراً استراتيجياً لتحديث المجتمع (Getty)

+ الخط -

يمكن القول إن "أمّ المعارك " قد بدأت في تونس، مع الاعتذار على هذه الاستعارة من قاموس صدام حسين. ... كان من الطبيعي، إلى حد ما، أن تطغى المسألة السياسية، بعد تصدع المؤسسات الدستورية، على إثر مغادرة الرئيس بن علي البلاد، ما استوجب تقديم صياغة الدستور ثم تنظيم الانتخابات التشريعية والرئاسية. اليوم، يجب أن تعطى لقضيتين الأولوية. أولاهما المسألة الاقتصادية والاجتماعية، وثانيهما إصلاح التعليم الذي اعتبرناه بمثابة "أم المعارك".

بدأت، في الأسبوع الماضي، فعاليات الحوار الوطني حول إصلاح المنظومة التربوية، بعد أن بلغت الأزمة مداها، ولم يعد أحد في تونس مقتنعاً بجدوى المنظومة الحالية التي استنفدت أغراضها، وأصبحت مضرة بالنفوس والعقول، وانقطعت الصلة تماماً أو تكاد بين المقدمات والنتائج.

بقطع النظر عن الاختلاف حول تقييم التجربة البورقيبية، فالمؤكد أن التونسيين يعترفون لرئيسهم، مؤسس دولتهم المستقلة، بأنه اعتمد على التعليم اختياراً استراتيجياً لإعادة صياغة المجتمع وتحديثه في فترة قياسية، ما كان له تداعيات إيجابية على الأفراد والمجتمع، وأسهم في الارتقاء بمستوى النخبة، وعمّق الوحدة بين التونسيين، وحوّل التعليم إلى آلية للارتقاء الاجتماعي، لا فرق في ذلك بين الفقراء والأغنياء، أو بين أبناء الريف وسكان المدن.

لا يعني هذا أن مرحلة بورقيبة لم تشهد بدايات ظهور أزمة التعليم الذي بقي مرتبطاً بالاختيارات السياسية والاقتصادية للحكم. فصعود اليسار في أواخر الستينات والسبعينات، وتواتر الحركات الاحتجاجات الشبابية، دفع السلطة إلى التدخل مباشرة في برامج التعليم والقيام بتعديلها، وخصوصاً مقررات المواد الإنسانية، مثل الفلسفة والتاريخ والآداب، حيث تمت مراجعتها، بهدف الحد من مساحة الفكر النقدي، بحجة حماية الهوية واحترام الخصوصيات الثقافية والسياسية. وعندما تولى بن علي السلطة، اصطدم بالإسلاميين وقمعهم، وقد لجأ بدوره إلى تعديل برامج التعليم، بحثاً عن صيغة تمكنه من تصفية خصومه إلى جانب سياسته الأمنية. وقد توفرت يومها فرصة مهمة لإجراء مراجعات عميقة مع تولي محمد الشرفي وزارة تجمع مراحل التعليم من الأساسي إلى العالي، لكن المحاولة فشلت، لأن النظام السياسي يومها كان مناقضاً لقيم الحرية والعقلانية وإدارة التنوع والاختلاف.

اليوم، هناك فرصة جديدة لبناء منظومة تعليمية بناءة، فالثورة تفرض تغييراً مهماً في أهداف التعليم ومناهجه ومضامينه. وإذا كانت وثيقة الدستور التي صدرت، في السنة الماضية، قد حسمت الجدل حول نمط المجتمع التونسي، فإن المبادئ والملامح التي ضبطها هذا الدستور، وأصبحت ملزمة للجميع، على الرغم من بعض ثغراتها، تحتاج اليوم نمطاً معرفياً وتربوياً حتى تنتقل من حيز النمط الافتراضي إلى واقع التونسيين، من أجل تعديله وتغيير بعض مرتكزاته وأصوله. فما حصل، في معظم المدارس التونسية، بمناسبة اقتراب موعد إجراء امتحان البكالوريا كشف، بوضوح، عمق الأزمة القيمية التي يعيشها قطاع واسع من أبناء المدرسة التونسية، واتضحت المسافة الشاسعة التي تفصل هؤلاء التلاميذ، ليس فقط عن مدرسيهم الغاضبين، وإنما عن الدولة والمحيط الاجتماعي، وعن الثورة وطموحاتها وأهدافها وشعاراتها.

مع بدء الحوار الوطني، يجب أن يتسلح الجميع بالوعي والمسؤولية، حتى لا يتحول التعليم إلى حلبة صراع لتحقيق مكاسب حزبية، أو تصفية حسابات أيديولوجية. وفي هذا السياق، ستتعرض الأسرة التربوية، وكذلك أطراف المجتمع المدني المشاركة في هذا الحوار إلى اختبار جدي، لأن بناء البدائل المستقبلية أصعب بكثير من رفع أصوات الاحتجاج. وما سيتم اقتراحه وقبوله سيحدد مصير الجيل القادم على الأقل. والمعادلة المطلوبة ليست سهلة: الوصول إلى بناء طالب يتمتع بالوعي والاعتماد على العقل إلى جانب النقل، والانفتاح على الثقافات الفاعلة، مع خصوصيات الثقافة الوطنية، مع الجمع بين القيم والمهارات، إضافة إلى الاستجابة لحاجيات سوق الشغل وبنية الاقتصاد. ولذلك استعرنا تسمية "أمّ المعارك".