لكي نعرف أفريقيا عن قرب، يجب أن نعرف أولاً كيف نرويها. من هذا المنطلق يستضيف "غاليري الفن المعاصر" في ميلانو، لغاية 11 أيلول/ سبتمبر القادم، معرض "أفريقيا، حكاية عالم"، في توازن أرادت منه القيّمة على المعرض، آديلينا فون فوستنبرغ، إبراز أطوار التقاطع "القسري" ما بين بدء وانحسار الوجود الغربي (مجازاً) وبزوغ الهوية الأفريقية، ثم الفترة التي تلت الكولونيالية، وفي النهاية، موجات الهجرة نحو الشمال حيث يزداد تدفقها اطراداً مع حجم الأزمات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي تعصف بالقارة منذ بدء عصر الاكتشافات الكبرى والتوسع الاستعماري.
إنها حكاية بين قارتين، أليمة ومليئة بفواجع ومآسٍ ما يزال كلا الطرفين يعاني من آثارها، إنما ليس بنفس النسبة وبمنظور مختلف تماماً، تجسّده هنا وهناك تعبيرات إبداعية تحولت مع الزمن إلى طقوس ترجمها الفنانون في أشكال وتعبيرات متعدّدة، من موسيقى الجاز إلى أغاني البلوز التي هي في المحصلة ترجمة أمينة لمعاناة الأفريقيين سواء في أوطانهم أو في الشتات.
يشترك في المعرض 33 فناناً أفريقياً معظمهم مقيم في أوروبا أو الولايات المتحدة، وتحظى أفريقيا الجنوبية بأكبر عدد من المشتركين. وبهذا المعرض يستمر اكتشاف القارات عبر مسار يتألف من صور، لوحات، رسوم، منحوتات، تجهيزات، تصاميم، أفلام لأجيال مختلفة تحمل الزائر على الاستقصاء البصري والسردي لكي يدرك شمولية المشهد الأفريقي المعاصر في جنوب الصحراء الكبرى، من أبطال ما بعد الاستقلال المتعلقين بخصوصيتهم الثقافية، إلى الفنانين المعاصرين الذين يبحثون عن طريق يجمع ما بين إرث الماضي والحاضر.
الصور والرسوم والمنحوتات المنتشرة على مساحة طابقين، تحاول أن تروي كل ذلك، كعلاج مُحتمل، لما عانته الشعوب الأفريقية من أهوال الاستعمار وما تبعه من استنزاف لمواردها الطبيعية والبشرية. لوحة ضخمة لسفينة في عباب بحر عاصف، ارتأى الفنان ينكا شونيبار (نيجيريا) أن تكون أشرعتها من أقمشة مزركشة وفاقعة اللون، كتلك التي ترتديهن النساء الأفريقيات، بالأخص في جزئها الغربي حيث، من هناك، كانت تبحر سفن العار وعلى متنها آلاف من النساء والرجال والأطفال المكبّلين بقيود حديدية في طريقهم إلى العالم الجديد.
قارب آخر، إنّما في تجهيز هذه المرة لـ بارتيليمي توغوو (الكاميرون)، حمولته حقائب وأكياس من كافة الأحجام والألوان، يمخر بحراً من قنانٍ بلاستيكية فارغة. لا رمزية هنا، بل دعوة لطيفة للانغماس في الحقيقة. القارب لا يتحرك، ولكن يمكننا بكل سهولة أن نسمع هدير الأمواج وأن نصغي، بمزيج من الحرقة واللوعة، إلى الأصوات المحبوسة في قعره. ولوهلة، نعتقد أن أفريقيا تبحر، بأرضها وناسها، إلا أننا سرعان ما نكتشف أنها تعود، بكل حمولتها، فلا مستقبل بلا جذور.
الأقنعة التي استلهم منها بيكاسو أحد أهم مراحل حياته الفنية، لم تعد من خشب الأبنوس وغاب عن ملامحها عنفوان الأجداد وتقاسيمهم القاسية. إنها اليوم أشلاء بلاستيك، حطام أجهزة منزلية، نفايات لا تعرف لها اسماً، تجتمع معاً لتعطينا شكلاً ربما هو أفضل مما كان عليه في ما لو أردنا أن نقارن دور كل قطعة قبل وبعد أن تحوّلت إلى جزء مُكمّل في لوحة أو تجهيز فني لـ رومولاد هازوميه (بنين).
في القسم المخصّص لأفلام الفيديو، تستقبلك همسات... همهمات وكلمات غير مفهومة وكأنها قادمة من العالم الآخر، وعناوين عبثية: أفريقيا في القرن الواحد والعشرين. عنوان مثير لشارع ترابي تصطفّ على جانبيه برّاكات واطئة من الصفيح في أحد العواصم الأفريقية، وتشكّ بأنه ينتمي للحاضر لولا السيارات والدراجات النارية التي تعبره وهي تتلافى بحذاقة الحفر الموحلة وأكوام النفايات.
الأصوات تشدّك أكثر، بل تشعر وكأنها تشلّ حركتك وأنت تتابع بعينين جاحظتين تلالاً من العظام في رواندا والموزمبيق في أعمال لـ بيتر هوغو (جنوب أفريقيا)، ليحتل المشهد بعد هنيهة ساحر بلباس عصري يوزع منشورات لعابرين لا يعرفون ماذا يقرؤون فيها لأنها بيضاء في عمل لـ آتو ماليندا (كينيا).
ولم يغب عن بال المشرفين أن يضعوا "الدافع"، دافع الاستعمار، أمام أعين الزائرين: مواعين من القهوة، الكاكاو، حفنات تراب من مناجم الذهب، النحاس، الحديد والفوسفات. ولأسباب تقنية بحتة تمّ تغييب اثنين من أهم المعادن التي ما يزال حكرها بأيدي الغرب: الألماس واليورانيوم.
أما المطاط، فقد اختير له أن يكون أريكة مكونة من مزق إطارات سيارات، جنباً إلى جنب مع أريكة أخرى مصنوعة من بقايا أسلحة وذخائر استعملها المتقاتلون في الموزمبيق لعقدين من الزمن تقريباً في العمل الذي أنجزه غونزالو مابوندا (الموزمبيق).
أريكة مريحة ومنفرة في ذات الوقت، عنوان آخر يحيلنا مرة أخرى للبحث في عبثية الحروب وتأثيرها الطاغي على حياة آلاف، بل ملايين من الناس، ربّما، بطريقة ما، تخفف من عبئها تعاويذ فريديريك برولي بوبريه (ساحل العاج 1923 – 2014) المهداة إلى جميع شعوب العالم، من بينها تلك المهداة إلى الشعب الفلسطيني: " تُفرض حرية "الضحك" على كل مواطن فلسطيني لكي يقود شعبه نحو الرخاء!".