"أساطير وحكايات": مزج الخاص بالعام

10 ابريل 2016
(القاهرة: مكتبة الآداب، 2015)
+ الخط -
كان توماس إليوت يرى أن الأساطير هي الاختيار الأمثل أمام المبدع لكي يعطي رؤية مضيئة للحياة. وهكذا فعل الدكتور توفيق منصور في كتابه "أساطير وحكايات" الصادر عن مكتبة الآداب بالقاهرة في عام 2015. فقد وظّف الأساطير في بناء مجموعته القصصية المتميّزة، التي مزج فيها الخاص بالعام، ونهل من معين التاريخ العربي القديم والحديث ليقدم لنا رؤيته الفنية لقريته "جزيرة الحجر" وعلاقتها بالصراع العربي الإسرائيلي، وليحكي لنا عن أدق أسرار الحصار اليهودي للجيش الثالث المصري في حرب 1973. وفي خضم السرد الفني المدهش لأحداث قصصه الواقعية، يستدعي معظم أبطال الميثولوجيا الإغريقية ليفسّر بهم الأحداث، ويربط بين قصصهم الخيالية وبين ما يرويه لنا عن فرعون غوريون وفرعون مائير، أي: جمال عبد الناصر وأنور السادات، وعن أخطائهما العسكرية القاتلة التي تسببت في كوارث عسكرية مسّت جميع مناحي الحياة، ليس في مصر وحدها، بل في العالم العربي كله.

واستدعاء المؤلف للأساطير الفرعونية في سياق وصفه لذكرياته عن حالة الحصار التي فرضها اليهود على الجيش المصري في المنطقة المواجهة للسويس من شرق القناة، والممتدة إلى مقابل الإسماعيلية، يكشف لنا عن قدرة فائقة للمؤلف على مزج الحديث بالقديم، وتوظيف الأساطير الإغريقية في البوح عن مواقفه الفكرية مما كان يدور وقتها من أحداث. كما تكشف عن عقلية موسوعية تحيط بأسرار الأساطير القديمة، وتعمل على دمجها في الواقع المعاش، وكأنما كان الحصار الإسرائيلي للجيش الثالث امتدادا لحصار جيش أجاممنون الإغريقي لمدينة طروادة التي كانت في آسيا الصغرى في موقع (إستانبول) الآن.

وكما هي الحال في الشعر الميتافيزيقي الإنجليزي، فإن توفيق منصور، في مجموعته القصصية هذه، لا يكشف لقارئه عن مقاصده من سرد قصصه بل يترك ذلك لذكاء المتلقي. ومع أن القراءة الأولية للقصص تعطي القارئ العادي فهما لأحداث سياسية وعسكرية واجتماعية وردت في ثنايا الكتاب في قالب فني بشكل مباشر، فإن القراءة المتمعّنة للنصوص تكشف عن آفاق رحبة لما وراء الأحداث، وأسرار دفينة تختبئ وراء النصوص. وهي آفاق إذا أبحر فيها القارئ هاله ما يكتشفه فيها من رموز، يتطلّب فك شيفرتها استقراءً ما وقع في الفترة الممتدة من هزيمة يونيو/ حزيران 1967 إلى الانكسار الذي حدث بعد العبور العظيم لقناة السويس، والذي أسفر عن عبور مماثل للجيش الإسرائيلي إلى منطقة غرب القناة، ووصوله إلى أسوار السويس التي أخفق في اقتحامها، بسبب المقاومة الباسلة لأبنائها. ولأن الرموز لا تبوح بأسرارها لكل من يقف عليها، فإن الوقوف على دلالاتها ومراميها يتفاوت من قارئ إلى آخر، حيث يفسرها كل شخص وفق رؤيته الخاصة "الجشتلتية"، التي تنبع من ثقافته وتذوّقه ومقدرته على التأويل.

وإذا كانت الأساطير هي الأم الأولى للدراما، فإن إدخالها في بنية القصة القصيرة يضفي أبعادا فنية وفكرية وخيالية على نسيج القصة. وقد نجح المؤلف في جعل الأسطورة جزءا من النسيج الفني لقصصه، وهو جزء يتماهى مع بنية كل قصة ولحمتها وسداها، فلا تحس بأن الإطلالة الميتافيزيقية للأسطورة على النص المتجسّد أمامك لحما ودما هي لون من الإقحام المصطنع للخيال الأسطوري في البنية السردية، بل هو معايشة كاملة للماضي فرضت نفسها بقوة على المبدع في حالة صياغته لأعماله القصصية. فعلى سبيل المثال، نجده في قصة "العصفور" يشبّه الطائرة العسكرية بإله الجو عند الإغريق (زيوس)، فيقول: "والطائرة هي الوسيلة التي ترمز إلى إله الجو عند العدو: (زيوس) الذي يثير الرعد ويرسل الصواعق، فيصيب بها من يشاء". وفي قصة "أسطورة البعث" يشبّه (علي العبد) بسيكلوب. يقول: "كانت الأمهات يرهبن أطفالهن الغاضبين بذكر اسم (علي العبد) حتى يناموا، وكأنهن بهذا الإرهاب يمسخن (علي العبد) إلى ما يشبه (سيكلوب) المارد ذي العين الواحدة، المعروف في أساطير الإغريق الأولين". ويقول أيضا عن ذلك (العبد): "وهناك من أهل القرية من يقول إنه يعشق عاشقة الطبيعة وراعية الحياة الفطرية التي سمّاها الإغريق: (آرتميس)، وأطلق عليها الرومان اسم (ديانا). فظروفهما واحدة، وعشقهما للطبيعة ليس فيه تباين ولا اختلاف. كان (علي العبد) يتطهّر في الجدول دون أن يراه أحد. وتحكي الأساطير عن آرتميس أنها كانت تستحم في الجدول، فلا يراها أحد".

والأهم من ذلك، هو أن المؤلف لم يكتفِ بإضافة بعد تاريخي وأسطوري عميق لحكاياته، بل عبّر بشكل عجيب وفريد عن الامتزاج الأدبي بين الفنون المختلفة قديمها وحديثها، وعن أن الثقافة العربية كما استوعبت الفكر الإغريقي في العصر العباسي، فإنها ما تزال قادرة على ارتشاف رحيق هذا الفكر، وتشكيل مواد فنية جديدة منه بعد مزجها بالواقع العربي وبالخيال المحلّق للمبدع العربي.

والمؤلف في سرد حكاياته يتخذ من مهبط رأسه في (جزيرة الحجر) بمحافظة المنوفية المصرية مدخلا إلى وطنه الأكبر. وهو في ذلك يتحوّل إلى كاتب سيرة ذاتية لقريته وأشخاصها. كما يصف لنا آثارها ومعالمها وتاريخها الجيولوجي والسياسي، بدءا من سقوط نيزك كبير في النيل (الذي اكتسبت منه القرية اسمها، والذي قام عليه دورها ونهضتها)، ومرورا بعهد عمرو بن العاص الذي اتخذها يوما ما مستقرا له، وانتهاءً بحرب 1967 التي طاولت القاعدة الجوية القريبة من القرية التي كان يعمل فيها المؤلف. وهو يفعل ذلك بحرفية عالية لا تدانيها حرفية طه حسين في سرد ذكرياته عن قريته في ما سمّاه بقصة "الأيام". فالمكان في قصص توفيق منصور هو البطل الرئيسي الذي يزاحم المؤلف نفسه في النجومية.

يصف منصور العدوان الإسرائيلي على القاعدة الجوية المجاورة لقريته، حيث دمرت طائرات العدو القاعدة الجوية بكامل مرافقها، فلم تعد تصلح لشيء. يقول: "جلست في حيرة من أمري، ورحت أقارن ما ألمّ بنا في القاعدة وما حاق بالقرية عندما اعتدى جلال وصديقه عمار على حرمة الطبيعة الهادئة الهانئة، وكدرا صفو الطيور في أعشاشها والحيوانات في حظائرها".

إن القاص هنا يدين القيادة السياسية لتعهّدها بألا تطلق الرصاصة الأولى في الحرب، ما أدى إلى تدمير سلاح الطيران بأكمله. وقد استبدل بشخصيتي الرئيس جمال ومشيره عامر اسمين قريبين من اسميهما، هما جلال وعمار. ومن الطريف أن تعبير (الطيور في أعشاشها، والحيوانات في حظائرها) معادل موضوعي لحظائر الطائرات.

ولا يترك المؤلف فرصة لشرح الأسباب التي أدت إلى الهزيمة، وهو لا يروي ذلك بلغة المؤرخ العسكري، ولكن بلغة المبدع الذي يعايش الحدث. ففي قصة "الوادي المقدس" مثلا، يكشف لنا عن التعنّت في اتخاذ القرار العسكري من قبل القيادة السياسية، وعن الإهمال في صيانة القواعد العسكرية. أما في قصة "وقال لا لقائده"، فيفضح فيها ما كان من محسوبية في القطاع العسكري في عهد (فرعون غوريون)، فأصحاب العقول الذكية (يشقون ويكدحون)، والمنافقون (يمرحون)، ولا يوجد من القادة من هو على شاكلة إيزنهاور الذي كان لا يسمح لمرؤوسيه أن يقولوا نعم، لأنهم من طائفة مونتغومري الذي لا يسمح لمرؤوسيه أن يقولوا لا!
وأخيرا، فإن هذه المجموعة القصصية تضم أيضا كنوزا من الأسرار عمّا دار في فترة حصار الجيش الثالث، وعن إرادة الصمود والتحدي التي اتّسم بها المحاصَرون، في وقت كانت القيادة السياسية غير مهتمة بهم وبمصيرهم.

(كاتب مصري)

المساهمون