الشباب التونسي: تطرّف ديني ثلاثي الأبعاد

30 يونيو 2016
(في تونس، تصوير: ياسين غايني)
+ الخط -

في ظلّ الفتوّة الدّيمغرافية التي تشهدها دولنا العربية، يُصبح لفئة الشباب وزن مُضاعف رهاناً وأهمّية، فبهم تنهض الأمم وبهم تنهار! وبين نقمة ممكنة ونعمة ممكنة أيضًا، تظلّ هذه الثّروة البشرية عرضة لأنساق معرفيّة مُختلفة، قد ينفخ بعضها فيها الحماسة فتُنجز، وقد تحاول أخرى تحطيمها والتحطيم بها.

ولا يختلف اثنان في أن التّطرّف يُعدّ أحد أوجه الهدم الأكثر فاعليّة داخل هذه الفئة من المُجتمع، والتطرّف بما هو تجاوز لحد الاعتدال في مجال أو سياق ما، عادة ما تكون أضراره مُتجاوزة لمحيط الفرد الذي يتبنّاه. ورغم أن التّطرّف كسلوك قد يكون مظهريًّا أو فكريًا أو دينيًا، يُعدّ الأخير أكثر أجناسه التي تُكبّد مُجتمعاتنا خسائر كبيرة.

وفي الحقيقة، عديدة هي الدّراسات والمُنتديات التي تناولت التّطرّف الدّيني كمبحث بهدف حصر الأسباب وتجميع الخلاصات بهدف صياغة مُعالجات تتصدّى للظّاهرة وتُقلّل من تداعياتها؛ البعض يرى في المُعطى الاجتماعي سببًا رئيسًا، والبعض الآخر يتّهم النّص الدّيني ذاته في حين يدّعي آخرون أن دكتاتوريّة الأنظمة من جهة وصدّها لمنابع التّديّن من جهة أخرى يقفان وراء تفشي العدوى.

شاءت الأقدار أن أنشأ في البلد الذي تتضارب التقديرات حول مرتبته بين الدّول المصدّرة للمتطرّفين نحو مناطق النّزاع، لكن تجمع على حلوله في المراتب الأولى. تونس ورغم طبيعة شعبها المُسالم ووسطيّته، عانت قبل الثورة وبعدها من هذه الظّاهرة؛ وهو ما يدل على أن الأسباب الكامنة وراء بروزها قد تختلف.

المُتابع للوضع التونسي يعلم أن نظام بن علي الدكتاتوري عمد لخطّة تجفيف منابع التّديّن في إطار مشروع كامل للتصدّي للإسلاميين الذين كانوا الخصم السياسي الوحيد القادر على إزعاج جلوسه على عرش السّلطة. وقد أفضت هذه الخطّة إلى تجريم كل ما له علاقة بالمسألة الدّينيّة ولو في بعدها الشّخصي؛ فأصبحت الصّلاة تهمة وأصبح ارتياد المساجد، خصوصاً من طرف الشباب مدعاة للبحث والتّحقيق داخل مخافر الأمن، ونُصّب على المساجد أئمّة لا حديث لهم سوى عن الوضوء والتّسبيح بحمد الحاكم بأمره، مع بعض الاستثناءات القليلة.

وأدّى هذا الخلل في المنظومة الدّينية إلى نشوء جيل تائه مُفرغ روحيًا، لم يجد ضالّته في المساجد الخاوية؛ فانطلق نحو الفضائيّات ثمّ الانترنت بحثًا عمّا يُشفي حالة التّصحّر الدّيني التي يعيشها. وساهم هذا الوضع في بروز ما يُشبه "الصّحوة" مع بداية الألفية الثانية، خصوصًا في الجامعة التونسية، تزامنت مع حملة التضييق على الحجاب التي شنّها بن علي ونظامه.

يقول صابر الراقوبي، وهو أحد المُشاركين في أحداث سليمان، وهي أحداث تورّط فيها شبان يعتنقون الفكر السلفي سنة 2007 بهدف قلب نظام الحكم بالسّلاح وتم اعتقالهم بعد مواجهات مع قوات الأمن التونسي إثر التفطّن إليهم، أن اعتناقه للفكر السلفي أتى إبان الغزو الأميركي للعراق.

ويضيف في شهادته لبرنامج "رفعت الجلسة" الذي بُث بعد الثّورة، أن سطوة نظام بن علي وتعذيب الأجهزة الأمنية لبعض الشباب مرتادي المساجد ومهاجمته للنسوة اللاتي كن يرتدين الحجاب ولّدت عنده وعند أصدقائه حميّة ونقمة على بن علي وأجهزته، وهو ما دفعهم للتفكير في استهداف رأس النّظام وهو ما كان وراء صعودهم لأحد الجبال بهدف الاختباء من أجهزة بن علي وأيضًا بهدف التدرّب على استعمال السّلاح.

بعد الثّورة، انفتح الفضاء العام أمام الجميع، واسترجع الشعب التونسي دولته وانتفت إلى حدّ ما دوافع نشأة ذلك الشّعور بالنّقمة الذي دفع صابر وصحبه لصعود الجبل بكل سذاجة يحلمون بقلب نظام حكم ببعض الرّصاصات.

ورغم أن الفضاء الدّيني استرجع حرّيته إلا أن هذه الحرّية فسحت المجال أمام اعتلاء الخطاب المُتطرّف المنابر علنًا، ليجد آذانًا صاغية وليتضاعف عدد المعتنقين لهذا الفكر ثم ليرتفع عدد المتورّطين من التونسيين في مناطق النّزاع سواء في ليبيا أو سورية أو العراق.

وتُشير أبرز دراسة أعدّت في تونس حول التّطرّف الدّيني وعنوانها "السلفية الجهادية، الواقع والمآلات"، نشرت سنة 2014 وأعدّها المعهد التونسي للدراسات الاستراتيجية التابع لرئاسة الجمهورية، إلى أن تناول الظّاهرة السلفية ضمن مقاربة نفسية اجتماعيّة يُؤكّد أن الشّباب المُتطرّف في تونس هو "شباب مُهمّش في مجال حضريّ مهمّش؛ لا يرى في الدّولة والمجتمع إلا وجههما التسلّطي الإقصائي، ولا سبيل إلى ردّ العنف المادّي والرّمزي للدّولة والمجتمع إلا بعنف آخر يوازيه في القوّة ويهزّه في العمق".

وترى الدّراسة أن أغلب المعتنقين لهذا الفكر المتطرّف من ذوي المستويات التعليمية المتدنّية وهو ما يُساعد في اعتناق أيديولوجيا خلاصية توهمهم بامتلاك حقيقة الدين والدنيا. فهم يعانون من فقر مزدوج ذي ثلاثة أبعاد، كما وصّف ذات المصدر: فقر مادي اقتصادي، وفقر معرفي تعليمي، وفقر ديني روحي. 

ومن بين أبرز المناطق التي ترعرع فيها التيار السلفي المتطرّف في تونس، نذكر منطقة دوار هيشر، وهي منطقة على تخوم العاصمة تونس، ذات مستويات عالية من الفقر وضعف التدريس، وهو ما أهّلها لتكون مجال دراسة ميدانيّة ضمن ذات دراسة المعهد.

وتؤكّد الدّراسة الميدانية أن التيارات السلفية نجحت في خلق منظومات اجتماعية بديلة تنتشل شباب منطقة دوار هيشر من حالة "العطوبة الاجتماعية" إلى حالة الاندماج الاجتماعي التي أنشأتها الجماعات المتطرّفة في ظل غياب الدّولة، أي أنها كانت ملاذ الشباب المهمّش لتحصيل المعنى لوجودهم، نفسيًا واقتصاديًا.

سواء تعلّق الأمر بالتَّضييق على الحريات الدّينية وامتهان الذّات البشرية في أنظمة الاستبداد، أو ارتبط بالتجهيل الدّيني، وسواء تعلّق الأمر بأحزمة التهميش الاجتماعي وحالة الغربة الوجوديّة التي تسكن أحزمة ما خلف دوائر الضوء الاجتماعي، سيظلّ للتطرّف محاضن قابلة للتعبئة والتّحشيد. لا وجود لسبب أبرز فالأسباب مُتعدّدة والظّاهرة يتداخل فيها النّفسي الرّافض السّاخط بالاحتياج المادّي دون نسيان المُعطى الثقافي في علاقة بآليات فهم النّص الدّيني، وهو ما يفرض بالمثل حلولاً مُركّبة سيطول مسار تنزيلها.

المساهمون