أنا "رح صير" طيار

16 يوليو 2015
أريد أن أصبح طيارا لألقي البراميل المتفجرة (فرانس برس)
+ الخط -
عندما كنت صغيرا كان للمناسبات الوطنية نكهة القوة لدي، كنت أرفع كتفيّ واستنشق الهواء ليمتلئ صدري وأنا امتلئ فخراً بتلك الطائرات التي تحوم في سماء "الوطن".

كانت مروحيات الجيش السوري تحلق بسماء المدن وتنثر القصاصات الورقية الصغيرة التي كنا نسميها "المناشير"، وكنا نحن الاطفال نركض خلف الطائرة لالتقاط أكبر عدد من تلك المناشير التي كتب عليها المنطلقات النظرية لحزب البعث، أو أقوال "الأب القائد" بحسب كتب المنهاج المدرسي أو مقولات مأثورة عن الانجازات الكبرى التي تحققت في عهد "القائد المناضل"، بحسب التسمية في المهرجانات الخطابية. 


بينما كنا نركض خلف الطائرة المروحية وتلقي لنا بـ"المناشير" نغني بعفوية تامة "طيارة طارت بالجو .. فيها فيها ضو .. فيها ابراهيم هنانو .. مركّب بنتو قدامو" دون أن نعرف أن مثل هذه الاغنيات لا معنى لها لأنها لا تصدح بالحب "للأب القائد".

فجأة كبرنا في غفلة من زمن كنا به على هامش الحياة والأفكار.. حديث دائم عن الحرب والعدو ثم لا حرب ولا عدو.. حديث عن المقاومة ثم لا ردود على غارات انتهكت البلاد.. في غفلة من زمن أصبنا بداء التدجين وأصبحنا بغفلة من الزمن أرواحاً مستكينة خوفا من سوط وصولجان وسجن واعتقال وسجان.. في غفلة من الزمن أصبحنا نخاف الجدران لانها تحولت إلى جواسيس في كل مكان فـ "للحيطان آذنان".

استيقظنا فجأة دون سابق إنذار، وهتفنا ورفعنا شعارات وأعلاماً، وشيعنا شهداء وحملنا جرحى، وكانت الطائرة تحوم فوق رؤوسنا، في البداية صورتنا، ثم أطلق الرصاص، يومها قلنا هذا منا لا يقتلنا نحن نعرف كان يرمي لنا بالمناشير ونجمعها.. كان يرمي لنا المزيد منها عندما يرى ضحكاتنا وتهليلنا.. نحن نعرفه هو منا لا يقتلنا.. بعد غفوة من الزمن تحول ذاك الطيار الذي نعرفه إلى وحش كاسر، ومناشيره إلى براميل وما زال يرمي براميله ونحن نظنها مناشير حتى قتلنا.. قتلوا.. قتلن.. وناموا مقتولين.. بلهجته القاسية رغم طفولته البريئة التي لا تتجاوز الـ 9 سنوات، قالها وهو يتحدى بعينين تثبان في وجه الآخر "أنا رح صير طيار".

في العادة كان السؤال عن الأمنيات المستقبلية للأطفال سؤالاً تقليدياً، بخاصة في حصة الرسم حيث تقول لنا المعلمة ارسم ما تحب أن تكون في المستقبل لتحفيز مخيلتنا عما يريد كل طفل، وكالعادة أيضا غالبية الطلاب يرسمون الطبيب والمهندس. قلة قليلة هم من يغردون خارج السرب في أمنيات غريبة لم أصب بالصدمة عندما قالها في وجهي كأنه نمر مجروح، فالعادة هنا لا تعني شيئا لأطفال فقدوا مقومات المستقبل ويعيشون حاضراً مؤلماً ؛ تمر هذه الكلمات بترف زائد أو ربما في ظل ظروف أصبحت عامة هي ترف زائد.

لم يكن "لؤي" بسنيه التسعة يعرف الكثير عن مهنة الطيران التي اختارها لتكون حلمه القادم لكنه شاهدها في سماء سورية كثيرا وبكل أنواعها، سألته متجاهلا ما يحصل من تدمير وقتل، هل تريد أن تكون طيارا لتأخذنا في رحلة إلى دولة أوروبية؟ أم أميركية؟ فجاء الجواب الصاعق من "لؤي" رغم هدوء صوته ونبرته المتزنة: "لا.. أريد أن أصبح طيارا لألقي البراميل المتفجرة"، صعقت من هذا الجواب حاولت استيعاب ما قال، رددت عليه السؤال "لماذا تريد أن تكون طيارا؟" أعاد الإجابة بثقة عالية بالنفس.. "لألقي البراميل المتفجرة"، ضحكت يومها ألما لم أستطع أن أتوازن من هول الجواب. 
لؤي أتعرف الطيار الذي يلقي البراميل ماذا يفعل؟
نعم يدمر البيوت ويقتل الناس.

خيّم الصمت على المكان، غرغرت عينيّ بالدموع، اختنقت الكلمات في حنجرتي، وما زال لؤي ينظر إلي بقوة وتوثب.. لم أستطع أن ألومه.. لم أستطع أن أثنيه عن أفكاره.. هل تحول لؤي إلى شخص همه الوحيد الانتقام وبطريقة المجرم الذي قتل عائلته؟!

(سورية)
دلالات
المساهمون