عضلات الأمن وذكاء النساء

30 ابريل 2015
+ الخط -

دخلت نادية الزنزانة وهي تصرخ، وقد خُلِع عنها حجابها وتنظر خلفها متوعدة بقولها "والله لورّيكم"،  ثلاث مرات كعادتها، وعلى وجهها آثار من ضرب. انتفضنا نحوها مهرولات نتساءل "مين اللي بهدلك كده يا نادية؟".

نادية: "بنات الأزهر في عنبر "العسكري" بينضربوا، السجينات استعنّ بجنائيات عنبر الآداب وماسكين العصي والشوم، أنا بقى رحت مسكت واحدة منهن وشديتها من شعرها، راحت قلعتني الطرحة"، تقاطعها إحدانا: "لأ شاطرة.."، وفي محاولة لإثبات قدرتها القتاليه تتابع نادية "بس أنا طبعا مسكتلهاش.. عارفين لولا إن أمل، مسؤولية النبطشية، شدتني من إيدي ده أنا كنت عرفتها مين نادية فتحي..".

وبينما نستمع لها وهي تصف مشهد الاعتداء على فتيات العنبر العسكري، والذي يضم ما يزيد عن 25 معتقلة، معظمهن طالبات جامعيات، وجدنا إحدى المعتقلات، وتدعى نعمة أحمد "26" سنة، تسارع نحو البوابة الحديدية التي تطل على ساحة التريض، والتي تفصل بيننا وبين العنبر السياسي الآخر"، لتخبرنا بأن الفتيات في العنبر يتم ضربهن، لم تنطق إلا بتلك العبارة "الحقوا البنات بيضربوهم"، وسرعان ما قامت إحدى السجينات بجذبها من شعرها ويديها لمنعها من التقدم إلينا وإخبارنا عن تفاصيل ما يدور في العنبر العسكري..

أعلنت السجينات حالة من  الطوارئ، فأغلقن الباب الرئيسي لعنبر التحقيقات، وخرجن رئيسات النبطشيات جميعهن لمتابعة ما يحدث في الخارج، لتلقي الأوامر من إدارة السجن، فأصوات صراخ وهتافات فتيات العسكري كجرس ثوري يرن بأذاننا ولا ندري ماذا يفعل بهن، أو بنا بعد قليل.

وبعد نصف ساعه ترقب، وجدنا ناصرة وماجدة وأمل، وهن رئيسات نبطشيات عنبرنا، قد دخلن إلى العنبر في محاولة منهن لتهدئتنا، والتأكيد على أن ما يجري في الخارج ما هي إلا مشادة عابرة، وقفت دارين مطاوع أمام باب الزنزانة لتستأذن إحدى السجينات في الخروج والاطمئنان عليهن، فردت عليها "مالكوش دعوة بيهم هما مش متربيين".

وهنا ثار العنبر للدفاع عنهن باستماتة "مش متربين ليه؟!" وتعالت هتافاتهن للمطالبة بالخروج إليهن: "يا جنود الله صبرا.. إن بعد العسر يسرا.. لا تظن السجن قهراً، رب سجن قاد نصراً".

عشر دقائق من الهتاف المتواصل بحناجر شاكية "انتقم يا رب، أشهد يا الله، أرنا غضبك"، الأيادي تشابكت جميعها أمام باب الزنزانة، وتوقفت الألسنة لنسمع ما يدور في الخارج، وإذ بجنائيات الآداب يسمح لهن بالخروج من نافذات العنبر الخاص بهن ومكايدة متظاهري الرأي بالرقص على أغنية "تسلم الأيادي". كان كل ما يشغل بالنا ما يحدث لإخواتنا في الخارج.

بعد مرور ساعة علمنا أن إحدى المعتقلات في العنبر وتدعى الدكتورة سماح سمير، كسرت يديها على يد سجانة تدعى سيدة، وتم احتجازها في الحبس الانفرادي، وفي صباح الغد ستأتي حملة "تأديب" لسجينات الرأي يقودها مدير مصلحة السجون.

مرت الليلة، والجميع في حالة من الخوف والترقب، فجميع الفتيات هنا ذاقت من ويلات التعذيب ما يكفيها، ولا تحتمل أن يضغط أحد على ذكرياتها المؤلمة؛ بلطمة وجه أو التعرض البدني لها.

وكانت جميع الأسئلة تحوم حول.. ماذا ينتظرنا في الغد؟ يا رب هون! قوة العضلات الأمنية أمام المكر النسائي.

مهما كانت الضرورة الملحة لإيقاظك، لا يوصف ذلك الشعور. أن ينام الجسد وروحك من فزعها متزملة،  فوالله ما يكفينا رقاب رجال الداخلية جميعهم إن مس جسد امرأه منا بسوء.

صرخت في أذني بعد سويعات من نوم متقطع إحدى زميلات الزنزانه لتذكرني بما حدث أمس من اعتداءات بين معتقلات العنبر الأزهري والسجينات: "يا سماح قومي البسي طرحتك، قوات فض الشغب دخلت العنبر الأزهري وخرجت البنات منه".

اتسعت عيني، متسائلة "هي الساعة كام؟"

فأجابتني: الثامنة صباحاً

أهرش برأسي مكررة: "أيوة يعني الحملة الأمنية وصلت؟"

تقف أمام الشباك الحديدي المطل على العنبر الأزهري، وتحدثني بنبرة حادة متأفئفة: "يوووو.. أيوة، أنا شوفت طابورين من رجال الأمن المركزي، يدبدبون بأرجلهم وفي أيديهم عصي، ويتقدمهم رجال إدارة السجون".

أوحى لي عقلي أن فقرة الاستعراض الأمني قد تستغرق ساعات، فجذبت الفراش على رأسي وقلت لها" طيب.. لما يحصل "اقتحام للعنبر صحوني".

جملتان بالعين غير منطوقتين من كلينا،

هي: اتخمدي يا باردة.

أنا: والله لم يفزعني مصيبة مجيئهم بقدر ما أفزعتني طريقتكم المستفزة في إيقاظي..

لم تمر ساعة إلا ووجدت الأصوات تصرخ "حسبي الله ونعم الوكيل".

أدركت حينها أن الحملة الأمنية بدأت في عملها، وقفت جميع الفتيات في عنبر "التحقيقات" أمام البوابة الحديدية المطلة على ساحة التريض، وجدنا فتيات العسكري يجررن المعتقلات من شعورهن، ويضربهن بالعصي من الخلف، ويركلنهن، وهن يصرخن، وكلمات نابية تعلو.

سارعت ومعي حجابي إلى دورة المياه، وتوجهت نحو صنبور المياه لغسل وجهي، واتهكم على نفسي قائله لها "تموتي انت في الضرب على نظافة"، وإذ بمسؤولة نبطشية العنبر وتدعى "ماجدة" تسارع نحوي وتجذبني من يدي "مش وقته.. تعالي معايا بسرعة يا سماح.

أنا: طيب هغسل وشي؟

ماجدة: من غير كلام كتير، يلا يا سماح، وعلى وجهها علامات من خوف، اتجهت بي وهي تجرني من يدي نحو غرفتنا، لأجد ملابسنا وأغراضنا مفترشة الأرض وسكبت عليها "زيوت الطعام "، والكتب قد مزقت، وهم يخربون محتويات الغرفة بكل ما أوتوا من قوة.

لا يوجد في العنبر سوى رجال الأمن والباب الحديدي المغلق مفتوح، وأحدهم بدون كلام يشير  لي بغرض الخروج منه، وهو يتمتم بشتائم. خرجت من الباب، لأجد ساحة التريض قد تحولت إلى عرض تكديري، حيث وقفت فتيات عنبر التحقيقات ووجههن إلى الحائط، وقرابة 30 رجلاً من رجال الأمن يحيطونهن بالأسلحة والعصي، ويضربونهن على ظهورهن.

لم تتحمل المرأة العجوز التي تجاوزت الـ65 عاماً، الحاجة نعيمة أحمد، هذه اللطمات الموجعة، وهم يتبادلون السخرية اللفظية ويوزعون العصائر التي كانت في غرفتنا و"يطفحونها" أمامنا.

مشهد كاف بأن يفجر بركان غضب ثوري بداخل كل واحدة منا، فارتفع صوت إحداهن، منى عبد الرحمن، حسبي الله ونعم الوكيل.

فإذا بقائد الحملة، مدير مصلحة السجون، مجدي سيف، يتقدم ليتابع العرض التكديري ومعه رجلان جسداهما كالثيران، ويأمرهما بضربنا من الخلف على ظهورنا. ويبدو أن السجينات أردن أن يظهرن ولاءهن للحملة الأمنية، فلم يترددن في توبيخنا وإهانتنا بأبشع العبارات، وقذف أعراضنا أمام "رجال" أمن الانقلاب.

للتذكير، هذا اليوم، التاسع من يونيو/حزيران 2014، كان بمثابة ثورة على إدارة السجن والمعاملة السيئة التي يتعرضن لها فتيات العنبر العسكري، حيث أعلنت الفتيات أنهن لن يسمحن بأي تعدٍ لفظي أو بدني عليهن.

وبالفعل بمجرد أن بدأت السجانة سيدة ومعيناتها من السجانات الاعتداء البدني باستخدام العصي، يوم الثامن من يونيو/حزيران، إلا وانتزعت منها فتاة العصي وهددنها قائلات "ليس من حق أحد أن يتطاول علينا، والمعاملة بالمثل من اليوم، لن نسكت على إهانة بعد اليوم"، ومع مقاومة الفتيات أحست السجانات بأن هيبتهن أمام الجنائيات قد ذهبت، فسارعن بتعبئة الجنائيات نحو العنبر في اشتباك وعراك نسائي، أظهرت فيه فتيات العسكري قدرتهن النسائية على مواجهة الجنائيات والسجانات، ففي الوقت الذي كانت تستخدم فيه السجانات العصي وتستعرض فيه الجنائيات قوتهن البدنية كانت سجينة الرأي تدفع بذرات ملح الطعام على وجوههن ليتفادين شرهن. وعندما علمت إدارة مصلحة السجون بما حدث دفعت بحملة "رجالية" خاصة لضرب وسحل الفتيات.

لم يكن التفتيش إلا بغرض الإهانة الجسدية، لا أبالغ حين أصفه بالتحرش البدني، أن تتعرى امرأة أمام امرأة! وكيف لنا أن نقبل هذا، صرخت إحدى البنات من الداخل وهي تبكى: "لا.. حرام عليكِ.. ده تفتيش ده!".

السجانة كوثر وسيدة صوتهما يعلو: جرى إيه يا بنت منك ليها! انتو نسيتوا اللي حصلكم في رابعة! يا بنات النكاح!

صراخ وبكاء زميلتي، اهتز له شعر رأسي، فوجدتني أخرج من طابور التكدير، متوجهة نحو مدير الحملة. وبطريقة صحافية مستفزة متعمدة سألته: بقول لحضرتك إيه، أنا عاوزة أعرف إحنا بيتعامل فينا كده ليه؟.

وبغرطسة أمنية أجابني: عشان أصحابكم اللي في عنبر العسكر قلوا أدبهم، والسيئة بتعم..

غاضني ذلك المشهد، وقوات فض الشغب تسرق معلبات العصائر من عنبرنا ويفرقونها فيما بينهم، فزادت حده صوتي: طيب.. أنا أرفض طريقة التفتيش دي، والعرض التكديري، واللي أعرفه أن اللي غلط هو اللي يتعقاب!

نفخ وكأنه يسبني بجمل غير منطوقة ثم قال: روحي اقعدي هناك.

بغطرسة شبيهه رددت عليه: مش هقعد.

فصرخ بوجه السجانات: تعالوا خدوا البنت دي ع الحبس الانفرادي.. زي ماهي كده ومن غير "شبشب".

أنا: ومين قالك إني لابسة شبشب..

 بصوت عال يتحدث: وهاتلولي الملف بتاعها.

المساهمون