تونس.. عودة الدولة الأمنية

30 ابريل 2015
+ الخط -

"وزارة الداخلية وزارة إرهابية" شعار رفعه الآلاف من الشباب في الأيام الأولى للثورة التونسية، نتيجة لقمع المظاهرات المنادية بإسقاط النظام، إلا أنّ هذا الشعار النابع من عذابات وآهات الشعب التونسي طيلة سنوات من التعذيب والقهر والإيقافات التعسّفية، سرعان ما اندثر بمجرّد صعود نجم الإرهاب الديني على حساب إرهاب أذرع السلطة الدكتاتورية.

وتحوّل المشهد السياسي والميداني في تونس نتيجة عمليّات إرهابية تبنتها كتيبة عقبة بن نافع في بلاد المغرب الإسلامي، مما دفع بالعديدين إلى الدعوة للتضييق على الحريّات تحت ذريعة محاربة الإرهاب، وأن الأمن مقدّم على الحريّة، فيما ذهب البعض الآخر إلى اعتبار أن الحريّة كانت السبب الأساس لصعود الإرهاب ولتفشّيه، دعوات لاقت صداها الجيّد في الأوساط الأمنية، التي أجادت استثمار المناخ السائد وسعت في كل المنابر الإعلامية لربط الإرهاب بالحريّة، وبضرورة إرجاع القيادات الأمنية "الكفاءات" المعزولة، والتي علم ارتباطها بالتعذيب والتجاوزات في حق المواطنين، وكذلك الترويج للتضييق على الجمعيات الحقوقية والمدافعين عن حقوق الإنسان، بدعوى أنها تعمل على تبييض الإرهاب، ومن ذلك الحملات على منظمة حرية وإنصاف الحقوقية، والعديد من الشخصيات الحقوقية والمحامين المدافعين عن حقوق الإنسان.

أما مشروعا قانوني مكافحة الإرهاب وقانون زجر الاعتداء على الأمنيين، فقد أثارا استنكار المجتمع المدني، وأثار مشروع قانون مكافحة الإرهاب المحال إلى مجلس نواب الشعب التونسي للبتّ فيه، عديد النقاشات وامتعاض طيف واسع من الحقوقيين، من ذلك الندوة التي أقامتها الهيئة الوطنية للمحامين التونسيين، والتي اعتبرت خلالها الهيئة أن مشروع القانون ينتهك السرّ المهني.

كما اعتبر حقوقيون تونسيون أن مشروع القانون الجديد يعتبر أسوأ من قانون مكافحة الإرهاب لسنة 2003، الساري المفعول حتى الآن، والذي ساهم بصفة أو بأخرى في تنامي ظاهرة الإرهاب باعتبار الاعتداءات الواقعة تحت بنود هذا القانون، الذي ينتهك حقوق الدفاع باعتباره من القوانين الاستثنائية. أمّا عن مشروع قانون زجر الاعتداء على القوات المسلحة والمحال على نظر مجلس نواب الشعب، فقد انتقدت نقابة الصحافيين والعديد من الأحزاب ومكونات المجتمع المدني هذا القانون، باعتباره ينتهك حرية التعبير ويرتّب عقوبات بدنيّة قاسية على الصحافيين الذين يتوصّلون بطرقهم الخاصّة، لمعلومات أو محاضر بحث أو وثائق سريّة تتّصل بالأمن الوطني، وقد تصل هذه العقوبات لعشر سنوات سجن، إلى جانب غرامات مالية تصل إلى قرابة 50 ألف دينار تونسي/25 ألف دولار أميركي.

حملة سيّب لخضر من أجل كفّ التضييق على حريّة السفر

أطلق نشطاء على الفيسبوك وتويتر حملة تحمل عنوان "سيّب لخضر" في إشارة لجواز السفر التونسي الأخضر اللون، وذلك نتيجة للتضييقات المتتالية على حريّة السفر إلى الخارج، فإحسان علواني مثلا، وهو أحد الحقوقيين التونسيين المقيمين في فرنسا منذ ثلاث سنوات، والذي عرف بنشاطه وقت الثورة التونسية وقبلها في مقارعة الدكتاتورية داخل الجامعة التونسية، منعت زوجته من الحصول على جواز سفرها للالتحاق به في فرنسا، فيما تصل حالات المنع إلى أكثر من ألف حالة منع من السفر.

تنامي حالات التعذيب والاعتداء الجسدي

نشرت المنظمة التونسية لمناهضة التعذيب تقريرها حول حالات التعذيب في تونس بين سنتي 2013 و2014، وقد اعتبرت المنظمة أنّ التعذيب "ظاهرة متغلغلة" داخل الأجهزة الأمنية للدولة، وخصوصا جهازي الشرطة والمؤسّسة السجنية فيما اعتبرت أن جهاز الشرطة يعدّ الأكثر تورّطا في هذه الممارسة، نظرا لاتساع مناطق تدخله الترابي وكثرة المحالين على هذا الجهاز من المواطنين، وقد وصلت حالات التعذيب في تونس الكبرى، وهي أكبر منطقة في الجمهورية التونسية من حيث التركّز الأمني وعدد السكّان، إلى 142 حالة تعذيب من جملة 228 حالة موزعة على كامل ولايات الجمهورية، تمّ تسجيلها خلال الفترة الممتدّة بين 2013 و2014.

هيبة الدولة من أهمّ ذرائع السلطة في ممارستها للتعذيب على الموقوفين والمشتبه فيهم، إلى جانب حالات المعاملة السيئة التي تطال تقريبا، كل المواطنين الذين تربطهم علاقة مع أجهزة الأمن حتى المسؤولة عن حسن سير المرور في الشوارع التونسية، وهو ما يعتبر رجوعا لبولسة الدولة وإرساء لدولة التسلّط لا لدولة الحقّ، وهو ما حذّر منه خبراء في علم الاجتماع، باعتبار صناعة أسباب لوجود حاضنة شعبيّة للإرهاب الذي تعاني منه تونس، منذ أحداث سليمان 2007 وتفاقم هذه الظاهرة بعد الثورة.

تدخّل من الأمن في القرارات القضائيّة

لم يقتصر العمل الأمني على ملاحقة المجرمين والإرهابيين وتتبعهم وجمع الأدلّة والقيام بالعمليات الاستباقية لضرب مواطن الإرهاب، وإنما قامت الأجهزة الأمنية ممثلة في الناطق الرسمي باسم وزارة الخارجية بالتعليق على قرارات قضائية، تقضي بعدم توفّر الأدلّة الكافية من أجل اتهام شباب بالإرهاب وببطلان الإجراءات في بعض القضايا الأخرى، ممّا أحدث ارتباكا لدى الرأي العام التونسي نتيجة التحريض المتكرر في الإعلام على القضاء، واتهامه من قبل إعلاميين بأنّ هناك قضاة "دواعش"، في تكريس واضح لوجوب إحالة كل من وقع التحقيق معه في مراكز الأمن إلى السجن دون محاكمة أو تحقيق أو تثبّت، وفي ذلك ضرب حقيقي لمبدأ المواجهة وقرينة البراءة المنصوص عليها دستوريا.

تبقى محاولات الشباب التونسي المؤمن بالحريّة في إدانة الإرهاب باسم الدين حثيثة، إلى جانب التذكير بأنّ الاعتداء على الحريّات وتغوّل الجهاز الأمني على حساب المجتمع المدني والحريّات، يبقى دافعا أساسيا نحو انتاج نماذج تؤمن بالعنف والإرهاب، لتغيير واقع عادت فيه ممارسة إرهاب الدولة للمواطن العادي في المدن التونسية، من أجل محاربة إرهاب في جبال الشعانبي لم يصله بطش الدولة كما وصل لرافضيه.

المساهمون