في المطر

31 مارس 2015
جورج براك، منظر في لا سيوتا
+ الخط -
نظرت المرأة من الرصيف إلى الشارع المملوء بالسيارات وقالت: قل لي يا مشاكس هل اشتقت إليّ في الليلة الماضية؟
لم يقل الصبي شيئاً. كان قد مدّ عنقه إلى الشارع المزدحم، وهو في حضنها يلوّح يده لسيارة تبتعد أكثر فأكثر.
كانت حافّة معطف المرأة تموج وهي تمشي.
ـ لم تردّ عليّ!
كانت عينا الصبي تحدّقان بعد إلى نهاية الشارع.
ـ لماذا ذهب بسرعة؟ كان لدي عمل معه.
ـ كان يريد الذهاب إلى الدائرة.
حين التفتت المرأة نحوه، لمع ظلّ جفنيها الأخضر لمعان فلوس الأسماك.
ـ لا تكذب عليّ، لأنّ اليوم جمعة.
وقفت لاهثة خلف إشارة المرور للمشاة.
ـ ألا تشعر بالبرد؟
ومدّت أصابع الصبي الصغيرة إلى فمها فقبّلتها.
ـ يدك باردة جدّاً!
وضع الصبي رأسه على كتف المرأة وقال: "لع".
مسّدت المرأة على ظهره ضاحكة وقالت: "لم تتعب، أليس كذلك؟"
ـ لع.
ـ يشعر الإنسان بالارتياح في حضن أمّه. أليس كذلك؟
ـ لع.
ـ لع يعني نعم، أليس كذلك؟
قال الصبي بصوت أعلى: "لع!"
ـ أريك الآن معنى لع، أيها المشاكس الكذّاب!
مدّت يدها إلى إبط الصبي فدغدغته. تململ الصبي وانفجر ضاحكاً.
فتحت سيارة إسعاف، وهي تطلق صفارتها، طريقها من خلال السيارات.
ـ قل لي لماذا تأخرتما؟
ـ عزف لي بابا القيثارة. هل تعرفين أية قطعة عزفها لي؟
لم ينتظر الردّ. بدأ يعزف بأصابعه على قيثارةٍ موهومةٍ، وهو يحرّك جسده يميناً ويساراً.
ـ كيف رضيت بأن تجعل ماما تنتظرك طويلاً في المطر؟
ـ سيارة بابا في الطريق بومببب...!
ـ انفجر إطارها؟
ـ صلّحها. لأنني ساعدته أيضاً.
ـ وسخت ثوبك الجميل. عليك تبديله في البيت.
وفتحتْ أصابعَ الصبي، وهي لم تزل في حالة ريشة القيثارة الموهومة.
ـ لماذا لم تقل لبابا أن يترك العزف لفرصة أخرى؟ لماذا لم تقل له إن أمّي في انتظاري وسطَ الشارع؟"
وأمسكت يدَ الصبي بقبضتها.
ـ أتعرف كم أقلق عليك كلّ مرّة قبل أن يأتي بك؟
ـ أنا قلت له ذلك أيضاً.
ـ لم تقل. لأنك كنت سارحاً للغاية.
ـ قال لو تجيء أمّك سأعزف لها.
ـ لا نحتاج إلى الكلام الفارغ... من المستحيل أن أسمح له بإبقائك عنده ليلاً.
ـ كيف أرجع إذن إلى بيتنا في ظلمة الليل؟
ـ هل مت أنا؟ سآتي وآخذك بنفسي.
ـ في حارتهم كلب كبير. لو جئت إلى هناك سيعضّك.
غيّرت المرأة مكان الصبي.
ـ لا يقوى عليّ.
ـ أأقول لك أنّه لا يقوى على من؟
ـ على أبيك؟!
لم يقل الصبي شيئاً. اكتفى بالضحك.
كانت السيارات قد اشتبكت بعضها ببعض وسط الشارع، وأصوات المزامير تأتي من الجهات كلها.
ـ طيب، قل لي هل سررت هناك؟
برقت عينا الصبي.
ـ صوّرني بابا...
ـ طيب!
مدّ الصبي يده، فلوى برأس إصبعه ضفيرةً من شعر المرأة كانت قد خرجت من تحت الطرحة.
ـ قال سأريك الصورة في الأسبوع القادم حين آتي مرة أخرى.
ـ ما عشّاك؟
ـ لا أعرف.
ـ يعني أنك لا تعرف ماذا تعشيت؟
ـ قال بابا حين يصير العشاء جاهزًا أضعه لتأخذه معك.
ـ ماذا عن الضيوف؟ هل زاره ضيف؟
وفكّ الضفيرة من حول إصبعه وهزّ كتفه.
ـ ماذا عن التليفون؟ هل تحدّث بالتليفون مع أحد؟
غطّى الصبي أذنيه الاثنتين بكلتا يديه وقال بصوت عال: "لا... أعـ .... رف."
ـ اهدأ، انثقبتْ طبلة أذني.
حرّك الصبي قدميه بقوّة.
ـ أنزليني إلى الأرض.
ـ مستحيل. ليس لدينا سوى هذه المظلة.
ـ أريد الذهاب بنفسي.
ـ ستذهب، ستذهب بنفسك. سأنزلك إلى الأرض حين يتوقف المطر.
ـ أريد أن أنزل الآن!
ـ حين يتوقف المطر.
أمسك بمقبض المظلة وحرّكه.
ـ لايتوقف. هذا المطر لا يتوقف.
سالت قطرات المطر على كتف المرأة.
ـ أنزليني إلى الأرض!
كان يحرّك أطرافه وهو في حضن المرأة.
ـ أنا على ما قلت!
ـ أنزليني!
ـ انتبه! لا تخرجني من طوري. أخرج يدك من أنفك أيضاً.
رعدت السماء.
وقفت أمام كشك، واشترت علبة منديل. ثمّ فتحت العلبة وسحبت منديلاً ونظّفت أنف الصبي.
ـ حين ترجع من هناك تتغير تصرفاتك. تسوء أخلاقك جدّاً. لا تحبّ أمك. تصرخ عليها. طيب! سأعرف كيف أتصرّف معك بعد اليوم.
التصق الصبي بالمرأة، وأخذ يمطر خدها بالقبلات.
ـ ماما، حبيبتي!
لم تنبس المرأة ببنت شفة.
ـ اشتقت إليكِ كثيراً في الليلة الماضية. صار قلبي صغيراً مثل حبة عدس.
ضحكت المرأة، وسحبت قبعة الصبي حتى حاجبيه.
ـ من علّمك هذا؟
مرّت سيارة بهما ورشّتهما بأوساخ الشارع، فتراجعت المرأة بضع خطوات، ونظرت إلى حذائها الملطخ بالطين، وجفّت الضحكة على شفتيها الحمراوين.
ـ الأحمق الوسخ!
تابعت عينا الصبي السيارة التي رمت بالأوساخ.
ـ نتصل ببابا ليأتي مع سيارته مثل البرق ويضربه بشدّة!
نظرت المرأة إلى وريد الصبي المنتفخ.
ـ الضرب من عمل الأناس السيئين.
ـ يقول بابا الشتم أيضاً من عمل الأناس السيئين.
اشتدّ المطر.
قال الصبي: "هيا نذهب! لماذا وقفنا؟"
ـ سنذهب. حين تصير تلك الإشارة خضراء نذهب.
ـ لماذا ذهب هذان الاثنان؟
ـ هما مخطئان. كادت السيارة أن تدهسهما، لا سمح الله!
ـ أكان ممكنًا أن ينكسر رأسيهما، وتنقلهما سيارة الإسعاف إلى المستشفى؟
ـ ربما.
ـ وما كانا ليحتفلا بعيد ميلادهما؟
ـ لا، ما كانا ليستطيعان.
ـ يا ماما!
ـ نعم حبيبي!
ـ ألا تحتفلين بعيد ميلادي؟
صارت إشارة المرور خضراء، فانطلقت المرأة.
ـ من دون شك سأحتفل. أنت لا تعرف كيف زيّنتُ غرفتك الليلة الماضية. لم يبق علينا إلا شراء كعكة الأرنب من العم بائع الشوكولا.
أنزلت الصبي أمام الصراف الآلي. أخرجت من حقيبتها بطاقة.
ـ أريد أن نفرح كثيراً اليوم.
وضعت البطاقة في الجهاز وضغطت على بعض الأزرار.
ـ كيف؟
ـ سنذهب إلى مكان جميل. أعرف أنك تحبّه كثيراً.
ـ وبابا؟ كيف؟ هل يأتي معنا؟
أخذت المرأة النقود من الجهاز.
ـ نحن الاثنان فقط.
احتضنت الصبي وصعدت إلى الرصيف المرتفع.
ـ أريد أن آخذك للغداء إلى ذلك المكان حيث بركة مليئة بالبط، وكنا ذهبنا إليه السنة الماضية. هل تتذكر كيف كنت ترمي لصغار البط فتات الخبز، فتلتقطها دائماً بمناقيرها؟
رفع الصبي قبعته الكروشيه وحكّ خلف رأسه.
ـ أين؟
ـ في ذلك المكان، حيث كانت فيه سلالم حجرية، وكنتَ تصعدها ثم تقفز منها.
سحب الصبيُ العقدةَ الكبيرةَ لحبل القبعة الكروشيه بأظافره، فانفكّ غزل النسيج.
ـ نعم.
ـ إذن تذكّرت أخيراً. كانت البيتزا شهية، أليس كذلك؟
ـ لكنّ بابا يقول طعمها سيئ جداً.
ـ لكنّك أحببت طعمها.
كانت القبعة الكروشيه تنفكّ في يد الصبي.
ـ بابا يقول طعم تلك البيتزا سيئ جداً.
ـ لم يقل طعمها سيئ. قال إنها مالحة قليلاً.
ـ ويعضّ البط هناك أيدينا أيضاً.
زحفت الريح تحت مظلة المرأة، وسحبتها إلى الوراء.
- لكننا أمضينا أوقاتاً سعيدة. أنت قلت فرحنا هناك. سترى أننا سنفرح ثانية.
- ماذا عن عيد ميلادي؟
ـ سنحتفل به. كم مرة عليّ قول ذلك؟
- من يحضر الحفلة؟
- الجميع.
- الجميع، يعني من؟
- الجميع يعني الجميع؛ زملاؤك في روضة الأطفال، ورُكسانا وعلي وشيفتة وپرستو و...
- من أيضاً؟
- خالتاك مهتاب وسوسن، وخالك شهاب مع نرگس وپوريا. سنمضي أوقاتاً سعيدة هذه الليلة.
- ماذا عن الصورة؟ نحن لا نستطيع التصوير.
- لم لا؟ نصوّر. الليلة نلتقط صوراً كثيرة.
- ليس لدينا الكاميرا.
قالت المرأة: "لدينا"، ثمّ انعطفت نحو زقاق مغلق، ينتهي بباب خشبي قديم، أسندت ظهرها إلى الحائط، كي تمرّ سيارة كانت تخرج من الحديقة.
- لماذا حصل هذا؟
كأنّ المرأة لم تسمع. كانت نظرتها مثبتة على نقطة أمامها، وعلى أعمدة حجرية قرب السلالم ترتجف أضواؤها في المطر.
- ماذا أفعل به؟
- ماذا حدث؟
مدّ الصبي يديه.
- هذا ...
نظرت المرأة إلى شلة الصوف المفككة، وقد وصلت خيوطها إلى معصم الصبي.
- فككت القبعة.
- قبعتي ..
مرّت بالباب الخشبي ودخلت حديقة المطعم الصغيرة.
- سوف أنسج لك قبعة أفضل من القبعة الأولى.
اجتازت الشارع الرملي الضيق حتى نهاية الحديقة. نظرت إلى النوافير المغلقة، وهي تمرّ بالبركة الفارغة. على مسافة غير بعيدة، كانت بطة بيضاء قد بسطت جناحيها على فراخها. حين اقتربا من البطة أكثر، بدت وكأنّها تستعدّ للهجوم عليهما. انحرفت المرأة عن طريقها، واجتازت أشجار الدلب، ثم وقفت قرب سلالم المطعم الحجرية. قفز الصبي من حضنها.
- لا تنفكّ هذه ..
ومدّ يده إلى المرأة.
- حين نصل إلى الطابق الأعلى، سأفكّها بهدوء.
- فكّيها ...
- لا يُقال الكلامُ إلا مرّة واحدة!
أخذ الصبي حفنة من الحصى على الأرض ورماها نحو البط. نظرت المرأة إلى السماء الزرقاء والغيوم الممزقة وأغلقت مظلتها.
- ما رأيك في أن نتسابق على الصعود إلى أعلى السلالم؟
- أنا لا أتسابق مع النساء.
رمى بحفنة أخرى من الحصى نحو البط.
- لحظة! من علّمك هذا؟
- النساء كلهنّ مخادعات.
- أبوك قال هذا؟
- قال إنّهنّ كذّابات أيضاً.
وارتفع حاجبا المرأة المقوسان.
ـ ماذا قال أيضاً؟
عضّ الصبي عقدة من خيوط القبعة وفكّها.
- ألم تقولي ليس لدينا الكاميرا؟
- لدينا كاميرا الآن.
- ألم تقولي إنّ أباك أخذها معه؟
ـ كنت صادقة في كلامي.
- لكنّه قال إنّها لي.
- لذلك اشتريتُ لنا واحدة أخرى.
- قال سيأتي بها الليلة إلى بيتنا.
- لا نحتاج إليها.
- قال سأعطيكما إياها.
- قلت لك لدينا!
كانا قد وصلا إلى أعلى السلالم. دفع الصبي بحذائه الملطّخ بالوحل البابَ الزجاجي للمطعم، وقال، قبل أن يدخل: "أنا أكره التصوير، أكره كعكعة الأرنب، أكره عليّاً ورُكسانا وشيفتة و..."
- دعنا ندخل الآن، سنتحدّث لاحقاً.

ترجمة سمية آقاجاني
المساهمون