آلهة المنصّة!

16 مارس 2015
+ الخط -

"العدل أساس الملك" ذلك النقش المعدني البارز أزليّ الطابع في قاعات المحاكم المصرية، خلف كل قاضٍ وفوقه، مدخل حُكمه ومنبع ضميره، قد غشّاه التراب وسكنه الصدأ، وعربدت عناكب الفوضى فيه، واستبدّ سواد الظلم حوله!
"هذا الذي كتبوه مسموم المذاقْ

لم يبق مسموعاً سوى صوت النفاقْ

صوت الذين يُقدِّسُون الفـَرْدَ من دون الإلهْ

ويُسبحون بحمده ويقدمون له الصلاهْ!!"

كنا بنقاء الشباب فينا نزدحم بخرافات العدالة والحقوق وتساوي الموازين وضمير القاضي الذي لا يظلم، لكن الحقيقة الآن أنّ أفكارنا وآراءنا تُساق إلى المحكمة قبل أجسادنا، فيصدر الحكم مذنب بجريمة الفكر مع سبق الإصرار والترصد، ويكون السجن أو الإعدام مصير العقول!

القاضي يُقنّن أحاسيسنا، فلا يريدنا أن نشعر بالظلم والقهر لقاء كل حكمٍ يُمزّقنا، لا أن نعترض عليه أو نثور ضده أو نجادل وننتقد. تريد آلهة المنصة منا أن نتشبّع فكرة قُدسيتها، فمخالفتها جريمة، والتعقيب على أحكامها تطاول وإلحاد، وعندما لم نتشبع سخافة الفكرة اتُهمنا بالهرطقة، وجُنّ جنون مطارق أحكامها بإعدامات ومؤبدات وغرامات مهولة!

لم تخذلنا أحكام قضاة الانقلاب، قضاة الديكتاتور، فقط، بل خذلنا ذلك التفاخر بحيثيات عدالتهم وضمائرهم وانتشاء أوداجهم عند رفع جلساتهم. إن فائض الظلم لدينا حطّم الأنفس وكسر الروح وأجهز على ما تبقى من إيمان بعدالات الأرض. فإله المنصة، القاضي، يرضى دائماً عن ذاته المقدسة، عن حكمه المنزّه، عن أدائه المسرحي، لا يأبه للعبيد أمامه، أو يكترث لتبعات ما دمر أو قهر، فهو إله من بين آلهة فوق الشبهات، يلتقط الشعب أنفاسه تفضلاً منهم، وينعم بالحياة لأنهم أرادوا له ذلك!

"الحاكم الجبار والبطش المسلح والجريمةْ

وشريعة لم تعترف بالرأي أو شرف الخصومةْ

ما عاد في تنُّورِهَا لحضارة الإنسان قيمةْ"

لم تعد هناك أجهزة في الدولة كلها، وعلى رأسها القضاء، تنتمي للوطن، كلها تعبد إله المصالح، فكل جهاز منحرف بآلهته وعبيده، ويحوطهم النظام الأكثر انحرافاً بقَوّاده. فنحن نعيش فوضى القوانين والأحكام ما لم نعشه من قبل. فالمشير عبدالفتاح السيسي، رئيس الانقلاب الحالي، أصدر 150 قانوناً يدّعي أنها لحماية مصر والمواطنين، محتكراً بذلك السلطة التشريعية، وآلهة المنصة كانت تُنفّذ هذه القوانين بأحكام مغلّظة لا رأفة فيها أو رحمة!

أبرز هذه القوانين جائرة الطابع مقصلة للآخر، قانون منع التظاهر المجحف الذي يعاقب المتظاهر بالسجن المشدد لعدم حصوله على تصريح من وزارة الداخلية، والذي سُجن على إثره الناشط علاء عبدالفتاح و19 معتقلا آخرين ما بين 5 سنوات و3 سنوات، وما زال عشرات الآلاف يحاكمون على ذات التهمة. وكذلك قانون الحبس الاحتياطي الذي يجيز حبس المعتقل والمتهم سنوات طويلة كأنه عقوبة، وقد فعّله السيسي على جميع المعتقلين من شباب وفتيات، والذين وصل عددهم إلى أكثر من 40 ألف معتقل، الغالبية العظمى منهم يقضون 575 يوماً حبساً دون محاكمة أو حكم فعلي، كمحمد سلطان، الشاب المضرب عن الطعام، والذي يحاكم بلا تهمة حقيقية، ويتم تأجيل قضيته كل مرة تأجيلات طويلة. وقانون محاكمة المدنيين أمام محاكم وقضاء عسكري، انتهاكا لحقوقهم بمحاكمتهم أمام قاضيهم الطبيعي، وهناك الكثير من المعتقلين يحاكمون عسكرياً وتُخفى المعلومات عن أهليهم أو محاميهم. وأيضاً قانون الضبطية القضائية الذي يعطي وزير العدل الحق في تعيين بعض العاملين في أي وزارة أو جهة حكومية، كمأموري الضبط القضائي الذين يحق لهم منع أي من المخالفين من المواطنين وتسليمهم للنيابة العامة لاتخاذ الإجراءات القانونية ضدهم!

وهناك القانون الخاص بمنظمات المجتمع المدني الذي يقيد عملها الحقوقي ويصيبه في مقتل في استقلالها، حيث تم إغلاق مئات الجمعيات الأهلية بحكم قضائي واجب النفاذ، وتنتظر 40 ألف جمعية أخرى مستقلة ذات المصير. وقانون تنظيم الجامعات الذي أعاد تعيين رئيس الجامعة والعمداء والوكلاء والأساتذة من قِبل رئيس الجمهورية وموافقة الجهات الأمنية، بعد أن جعلت ثورة 25 يناير هذه المناصب بالانتخاب. فمنذ قيام السيسي بالانقلاب العسكري تم تقديم عشرات الأساتذة الجامعيين للمحاكمات، وفصل الكثيرين منهم، فقط لإدلائهم بآرائهم. وهناك قوانين تزيد من صلاحيات رئيس الجمهورية وتُطلق يده أكثر. وكذلك صدور أحكام بإلغاء الانتخابات البرلمانية، ليظل احتكار السلطة التشريعية ملك يمين رئيس الانقلاب. كما أنه أصدر 8 قوانين تزيد من صلاحيات العسكر/الجيش، وميزانيته، وتُتيح توغله سياسياً واقتصادياً وإعلامياً بلا رقيب أو محاسب!

"لا تُصغِ يا ولدي إلى ما لفقوه وردَّدوهْ

من أنهم قاموا إلى الوطن السليب فحرَّروهْ

لو كان حقاً ذاك ما جاروا عليه وكبلّوهْ

ولَمَا رموا بالحُر في كهف العذاب ليقتلوهْ

ولَمَا مشوا بالحق في وجه السلاح ليخرسوهْ"

السيسي أصدر مؤخراً قانونَين هما الأخطر حتى الآن، ويردد أنهما لمصلحة الوطن والشعب، وستبدأ آلهة المنصة في تنفيذهما خلال المحاكمات القادمة: الأول قانون الكيانات الإرهابية والإرهابيين، والذي يُصنّف أي منظمة أو جمعية أو جماعة أو حركة أو رابطة بأنها إرهابية، ويتم إدراجها على هذا الأساس، فيتم حظرها، ووقف أنشطتها، وغلق أماكنها، وحظر اجتماعاتها وتمويلها، كما يتم تجميد أموالها وأموال أعضائها، ويتم كذلك حظر الانضمام أو الترويج لها أو رفع شعاراتها، ويُعتقل مؤسسوها وأعضاؤها، ويُدرجون على قوائم المنع من السفر وترقب الوصول، وسحب جوازات سفرهم أو إلغاؤها أو إصدار الجديد لهم، وبذلك ستخضع له المنظمات الحقوقية والجمعيات الأهلية والخيرية وجماعة الإخوان المسلمين وحركة 6 أبريل وحركة عدالة وحرية وحركة أحرار ورابطة الألتراس بكل أنواعه!!

أما القانون الآخر، فقانون إلغاء وجوب سماع الشهود، سواء شهود الإثبات أو النفي في القضايا الجنائية، والذي يعطي القاضي حق التغاضي عن سماع الشهود، والحكم بما أمامه فقط من تحريات أمن الدولة أو المباحث! الأمر الذي يُهدر أبسط حقوق المعتقل أو المتهم في محاكمة عادلة، كما يغلّ أيدي محاكم أول درجة، ويمنع حق المُدانين في الطعن عليه.

أغلب هذه القوانين لم يعرضها السيسي على مجلس الدولة، كما هو مقرر في الدستور، بل تألّه كبيرهم هو الآخر وتجاهل ملاحظات قسم التشريع على بعض القوانين ومطالبة القسم له بمراجعتها. ولم نجد مجلس الدولة، تلك الهيئة القضائية التي من المفترض أنها مستقلة وصدّعت رؤوسنا باستقلالها وعدم تغوّل السلطة عليها، تعترض وتقاوم ذلك التجاهل، وتضع حداً له بوسائل الضغط التي تمتلكها، إلا أنه يتأكد كلام أحد مصادري من مستشاري المجلس عندما قال لي منذ 4 سنوات: "أن كل هيئات القضاء أصابها الفساد والتفسّخ حتى مجلس الدولة، فهناك أجنحة مختلفة تتجاذبه، وكلٌ حسب مصالحه وتمسكه بمنصبه أو طموحه لمنصب أعلى أو انتدابه للخارج، وإن ظلّ هو الهيئة القضائية الأقلّ فساداً حتى الآن!".

"الحرُ يعرف ما تريد المحكمةْ

وقُضاتها سَلَفَاً قـد ارتشفوا دمهْ

لا يَرْتجِي دفعاً لبهتانٍ رماهُ به الطغاةْ

المُجْرمونَ الجالسون على كراسيِّ القضاةْ"

كانت تلك القوانين الجائرة وكانت آلهة المنصة، هي المقاصل للمعارضين من الثُوار، في الوقت الذي تم الإفراج فيه عن أباطرة الفساد من مبارك وابنيه وحاشيته كلها وقتلة الثوار والمواطنين تحت التعذيب من رجالات وزارة الداخلية، كأن ثورة لم تقم قط، ولم يُحاكم فاسد أو قاتل أو سارق، وتمت تبرئتهم جميعاً بفجاجة وسط ذهولنا، تبقى الأحكام الأكثر صدمة وسرعة في الإصدر هي أحكام الإعدامات الجماعية والمؤبدات المتعددة للمعتقل الواحد، والمحاكمات الجماعية الرهيبة. فمنذ بداية الانقلاب وحتى الآن صدر ما يقرب من 1436 حكماً بالإعدام على قيادات وأفراد من جماعة الإخوان وأنصار الرئيس المعزول الدكتور محمد مرسي، في سابقة مهولة لم تحدث في التاريخ الحديث، كما صرح المتحدث باسم المفوضية العليا لحقوق الإنسان، روبرت كوفيلي، وخُففت تلك الإعدامات الجماعية لتصل إلى 436 حكماً بالإعدام، غير نهائي وواحد فقط نهائي تم تنفيذه منذ أيام، وما يقرب من 600 حكم بالسجن المؤبد، ومئات الأحكام ما بين 10 و15 عاما!

كما أصدر أحد آلهة المنصة في محاكمة جماعية حكماً بالسجن المؤبد على 230 معتقلا، و10 سنوات لـ39 قاصرا، وغرامة مهولة وصلت إلى 17 مليون جنيه، في حين حصل محمد البلتاجي، القيادي في جماعة الإخوان، على أحكام وصلت إلى 145 عاماً، وحصل أسامة ياسين، أحد القيادات في الجماعة، على أحكام بمؤبدين، إلاّ أن محمد بديع، المرشد العام للجماعة، تفوّق بحصوله على 3 إعدامات ومؤبدين، وهناك سيدتان شقيقتان حصلتا على حكم بالمؤبد، وسيدة حصلت على حكم بالإعدام!

كل ذلك، ولم نتطرّق إلى الأحكام الغريبة التي أصدرتها آلهة المنصة كرفع شعار رابعة أو حمل مسطرة أو بالون عليه ذات الشعار، أو التسبب في احمرار وجه وكيل النيابة غيظاً، أو سب شرطي، كما حدث أثناء محاكمة الشاب يوسف طلعت، والذي اتهمه أحد الضباط بسبه في مشادة نفاها شهود كُثر، فحُكم على طلعت بالسجن 3 سنوات وغرامة 10 آلاف جنيه!

لا ننسى أبداً عشرات الصحافيين المعتقلين في السجون، والذين وصل عددهم إلى أكثر من 70 صحافيا معتقلا ما بين حبس احتياطي ومحاكمات وهمية ذات تأجيلات مستمرة، وأحكام وصلت إلى السجن 7 سنوات، كما حدث مع صحافيي قناة الجزيرة، و10 سنوات على صحافيين في القضية المعروفة إعلاميا بـ"خلية ماريوت"!

أبشع وسائل القمع عندما تجد قاضياً من المفترض أنه يُؤمّنك يَظلمك في مقتل، وهل أكثر ظلماً من تآمر قاضٍ على محكوم؟ وهل أكثر قهراً من استبداد قاضٍ على مظلوم مضطهد؟ أبسط حقوقه محاكمة عادلة وحماية العملية القانونية الواجبة من المخالفات الإجرائية والانتقائية البارزة في عدالة آلهة المنصة، يُذهلنا إيمانهم المستبد بنفوسهم الخربة أنهم يقضون بما يُرضي محكمة السماء، وذلك كما ادّعى أحد آلهة المنصة كبراً وغروراً، وكأن الله تعالى يرضى عنهم بالفعل وعن أحكامهم الباطشة، وكأن عدالته ستغفل عنهم يوماً أو أبداً، وكأن الله لم يقل إليه تُرجع الأمور، لكننا نعلم يقيناً أن الله لن تضيع عنده مظلمة، وأن قصاصه قائم لا محالة!

"كذبوا وقالوا عن بطولته خيانةْ

وأمامنا التقرير ينطق بالإدانةْ

هذا الذي قالوه عنه غداً يُرَدَّدُ عـن سِواهْ

ما دُمت تبحث عن أَبِيٍّ في البلاد ولا تراهْ"

إنهم إن طمسوا الحقائق والدلائل، وأغشوا أبصار الناس وأسماعهم، فإن الأوراق والمنصات والكراسي وأقفاص الاتهام وصوت المرافعات ومطارق الأحكام يملكون ذاكرةً أبدية وعقلاً لا يموت.

الآن وقد خبرنا الحقيقة بمذاق مُفعم بالصدمة والتقزّز، آن لنا أن نُعلنها على حساب تعقّلات أجيال العبودية والشيخوخة أنه يتقمّصنا اليوم إحساسٌ عادل بضرورة تطبيق أحكام ثورية لم نقم بها ضد جميع الآلهة، وأنه كان لزاماً علينا أن نبدأ بآلهة المنصة، فيستوي ميزان العدل الذي هو أساس مُلك الشعب، وتتحقّق العدالة الثورية ولو بعد حين، فبانتفاء العدل سيتداعى ملكهم، وسيكون أحد وسائلنا في استعادة الشارع وإسقاط حقيقي للنظام البائد.

** قصيدة "أغنية أم" للشاعر المصري الثائر هاشم الرفاعي.

المساهمون