كسوف الحريات الأكاديمية العربية

08 فبراير 2015
+ الخط -
لم تكن الحريات الأكاديمية في يوم من الأيام في المنطقة العربية ذات معنى، وهذا طبيعي حيث إنها تنحدر من الحرية العامة التي يتمتع بها المجتمع. وبما أن أنظمتها في الغالب دكتاتورية، فلقد أملنا أن تخلق الانتفاضات العربية بيئة جديدة محفزة للتفكير الحر ورفع درجة استقلال الجامعات. ثمة بعض التطورات الإيجابية الآتية من تونس؛ وأخرى سيئة من سائر أنحاء المنطقة بدرجات متفاوتة.

أبدأ من الخليج، حيث لا يحصل بعض الذين اختيروا للتدريس في الجامعات على إذن العمل بسبب اعتبارات "سياسية". وقد تفحصت هذه الظاهرة فوجدت أن كل شيعي لبناني أصبح ضحية في قائمة بـ "صيد الساحرات" طالت وتشعّبت. وليس صحيحاً أن الاعتبارات هنا سياسية بل هي محض طائفية. ثمة استاذتان رُفضت (فيزهما) برغم مناهضتهما من خلال كتاباتهما لأجندة حزب الله السياسية والاجتماعية؛ إذاً ذنبهما الوحيد أنهما "شيعة". وما أعجب له كيف يمكن أن يفتقد تصنيف الدول للجامعات العربية أي معيار يتعلق بالحريات الأكاديمية. وللتذكير حازت بعض الجامعات السعودية والإماراتية ترتيباً عالياً. وكيف يمكن للجامعات "الراقية"، والتي تتبع جامعات غربية في المنطقة أن تعمل من دون مفاوضة شروط ممارسة حريتها الأكاديمية، وأن تضمن تعيين من تختارهم؟ نعم، تقوم السلطات الأمنية هناك بممارسات بيو-بوليتيكية وتمييزية ضد جنسية وطائفة معينتين. أما في لبنان، فيعرقل وزير العمل تعيين أي موظف فلسطيني في الجامعات الخاصة (هناك أمثلة كثيرة من الجامعة الأمريكية في بيروت) أو حتى أكاديمي سوري، وهذا مخالف للقوانين التي أقرها البرلمان اللبناني في شهر آب/أغسطس 2010 ومخالف لأعراف احترام حرية الهيئة التدريسية لاختيار أعضائها حسب الكفاءات فقط. وعندما تفتح جامعة مثل الجامعة الأميركية أبوابها لحفنة قليلة (ستة أساتذة وباحثين) يمنع وزير العمل اللبناني إعطاءهم إجازة العمل.

يَعتبر أحمد العيسى، وهو رئيس سابق لجامعة سعودية، أن هناك "الطلاق البائن" بين الجامعة وتيارات الفكر والثقافة، والذي يرى سببه في "التوجس المبالغ فيه لدى المسؤولين في الجامعات، ولدى المسؤولين في وزارة التعليم العالي، من منح الجامعات فرصة الانفتاح على قضايا المجتمع وإطلاق الحريات في مناقشة القضايا الحساسة؛ فحرصوا على ألّا يكون للجامعات موقف من هذه القضية أو تلك". ويظهر ذلك جلياً عندما قمنا بتحليل مضمون الموضوعات المتناولة في المجلات الأكاديمية السعودية. فعضو هيئة التدريس هو رهينة ضوابط معينة تحدد فكره وحركته. إذ لا يجوز لعضو هيئة التدريس حضور المؤتمرات والندوات إلا ضمن ضوابط معينة منها وموافقات مجلس القسم ومدير الجامعة. وبينما كانت كثير من الجامعات تفتح أبوابها لمحاضرين زائرين، أصبح من الصعب جداً استقبال حتى ضيف محاضر في صف من دون أخذ موافقة أمنية، كما الحال في الإمارات ومصر.

في مصر أغلقت بعض الجامعات أبوابها بوجه أي محاضر يمكن أن يكون معارضاً لسياسة الحكومة، وهناك كثير من الأمثلة حول ذلك. وبعدما أن تم انتخاب رؤساء الجامعات في عهد الرئيس محمد مرسي لأول مرة بتاريخ هذه الجامعات، تمت إقالتهم وتعيين موالين للحكومة. وقد أصدر الرئيس السيسي مرسوماً رئاسياً قبل أيام يسمح بفصل أساتذة الجامعات إذا مارسوا أي نشاط سياسي داخل حرم الجامعة.

أخيراً لا يمكن إلا أن أقول إنه بدون الحريات الأكاديمية لا يمكن لملكة الإبداع أن تقدح، ولن تكون الجامعة مركزاً للتجديد، وإثارة حافز الابتكار. فمنذ القرون الوسطى أنشئت الجامعة باعتبارها حيزاً استثنائياً امتدادياً (Extra-territorial Space of Exception)، بمعنى أن قوانين الدولة لا تنطبق بالضرورة عليها، ما يمنحها حرية انتقاد المجتمع المحيط بما في ذلك السلطة الكنسية، ولكن لم تفقد هذه الجامعات الاتصال بالمجتمع والتجاوب مع احتياجاته. وحافظت الجامعة على هذه الوضعية حتى الآن. فهل يمكن للجامعات العربية أن تخلق مثل هذا الحيز؟

(أستاذ علم الاجتماع، الجامعة الأميركية، بيروت)
المساهمون