مساء مونروج

08 ديسمبر 2014
+ الخط -
كانت تتوالى الصور وتتداعى الأفكار في نفسي بلا توقّف، وأنا مسافرٌ وحيدًا في القطار إلى مرفأ سانت مارين الصغير، البعيد، عند مصبّ نهر أودية على المحيط الأطلسي، غائصًا في حنايا ذاتي، منصرفًا، على غير عادتي، عن تأمّل المشاهد المنسابة وراء النافذة، التي طالما فتحتْ أمامي الآفاق وحملتْ إليَّ سكينة لا توصف. 

بتُّ أستغرب، أكثر فأكثر، بعض المشاعر التي تنتابني، وأريد مصارحة نفسي بها وجهًا لوجه. أودّ الوقوف أمام مرآتي الداخلية وأسأل: هل ما أحسّ به هو أمرٌ طبيعي حقًّا، أم هو دليل اضطرابٍ وتوجّسٍ كبيرين، ينأيان بي عن الواقع، وينقلانني إلى مطارح يجب ألا أصل إليها ولا أطأها أبدًا؟ لكن أيًّا كان الجواب، هل أستطيع نفي مشاعري؟ 

لم يسبق لي، على مدى حياتي، أن شاهدتُ موتَ أحد، أو عايشتُه. حين توفّي والدي، حدثَ ذلك في صورة مفاجئة، ولم أكنْ معه. وحين توفّي جدَّايَ وجدّتَايَ، وقد غابوا عن هذه الدنيا في أقلّ من عامين، كنت صغير السنّ، وكان لدى أمّي حرصٌ شديد على إبعادي عن كلّ مصاب.

أمّا النزاعات الدموية التي رافقتْ صباي وزمن ما قبل هجرتي، حيث سقط حولنا طوال سنين الكثير من القتلى، ممّن نعرفهم ويعرفوننا، فأنا لم أشهد، خلالها، مصرعَ أيّ منهم. كنتُ أنظر إليهم وهم مسجّون بلا حياة في أسرّتهم، وحولهم أمّهاتهم وأحبّتهم، في ليالي الألم والنحيب الطِوال التي لا فجرَ لها. وكنتُ أسير بعد ظهر اليوم التالي في جنازاتهم. وما زلتُ أسير فيها حتى اليوم وحيداً في أروقة نفسي. 

لكن شاء القدر قبل أسابيع أن أرافق، عن قرب، موت سلمى فرح، وأن أعاينه، في شقّتها المتواضعة في ضاحية مونروج. كان المساء يرنو بأوّل أضوائه، والمطر يهطل بطيئًا منذ وقتٍ طويل على بلّور النافذة، وكنّا وحدنا في ذلك الداخل الهادئ، الخافت، حين توقّفتْ سلمى فجأةً عن الإصغاء إلى ما أقوله، فأحنتْ رأسها قليلًا، يا للهول، وأسلمتِ الروح. حدثَ ذلك في لحظةٍ واحدة، لا أكثر. 

كانتْ لحظة انتقال سلمى من الحياة إلى الموت، من أرهب ما رأيتُ في حياتي وأغربه. لن أستعيد الآن تفاصيل الفجيعة التي أصابتني، ولا مشاعر الذهول واللوعة، التي ما برحتْ تقضّ مضاجعي وتُدمي قلبي على مرّ الوقت.

لكنّي أودّ الإشارة فقط إلى ما يأتي: لقد غيّرتْ رؤية وفاة سلمى، أمورًا جوهرية في ذاتي، ولم أبقَ بعدها قطّ أنا نفسي. كيف لمن يشاهد لحظة الموت أن يبقى هو نفسه؟ كيف يظلّ ما بعدها مثل ما قبلها؟ لا بدّ أن يبدو هذا التساؤل مُستغرَبًا، بل ربّما ساذجًا، إن كشفتُه للملأ. ألا أعلم أنّه في كلّ ساعة يموت الآلاف، ويشاهد موتهم الآلاف؟ أعرف ذلك تمامًا، لكنّي لا أتحدّث هنا عنه البتّة. لا أدري ما يشعر به ملايين الناس، ممّن عايشوا لحظة الموت، أو رأوها.

بحرٌ هائل من الحالات والأحاسيس، أنَّى لي الإحاطة به وخوض غماره. ما أتكلّم عليه هو لحظة موت سلمى فرح، وهي في ربيع العمر، ذات مساءٍ ماطرٍ، في العشرين من نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، في شقّتها الوادعة في ضاحية مونروج. 

كانتْ عذابات سلمى بدأتْ قبل عامين، حين غادرها الرجل الذي تحبّ من دون أن يوضح السبب. كانت مضتْ شهور على لقائنا حين باحتْ لي سلمى بمكنوناتها وأخبرتني بقصّتها. ولأخفّف من أوجاعها، بحتُ لها أنا أيضًا بما لا يعرفه أحدٌ عنّي، إذ اعتدتُ إحاطة ذاتياتي بالكتمان. أخبرتُها عن رحيل فيرونيكا المفاجىء، الذي لم أدرك سرّه قطّ، وقد تركني في ضياعٍ يصعبُ وصفه. لكن، كي أشجّعها على الخروج إلى الضوء من النفق الذي هي فيه، لم أورد لها إلا نصف الحقيقة.

قلتُ لها إنّي تخطّيتُ فراق فيرونيكا، على الرغم من ولهي وهيامي بها، وبدأتُ بناء حياتي من جديد. لكنّ الحقيقة هي غير ذلك تمامًا. فأنا ما زلتُ أسيرَ حبِّها، لا سبيل لي لمحو صورتها الماثلة أمامي على الدوام. وكلّ ما فعلته لنسيانها ذهب أدراج الرياح. 

توطّدتْ علاقتي بسلمى، وصارتْ تزورني في شقّتي في حي مونسوري، وأزورها في شقّة مونروج، لكنّنا لم نتخطَّ يوماً حدود الصداقة البحتة. ومع مرور الوقت، ازداد إعجابي أكثر فأكثر بطبعها المستقيم وقيمها الرفيعة، ممّا ندرَ وجوده اليوم، ورغبتُ في معرفة المزيد عن نشأتها وبيئتها. ومختصر القول إنّ هذه الصبيّة، ابنة المُدرِّس وربيبة البيت المتواضع، التي حضرتْ إلى هنا طلباً للعلم، إنّما هي أميرة ولِدتْ وترعرعتْ في قصر أمير، في المعنى الروحي والإنساني للكلمة. 

كانتْ سلمى تُحضِّر نفسها للعودة إلى البلاد ولقاء أهلها بعد سنين من الغياب، حين بانتْ عليها، منذ أقلّ من عام، أولى دلائل المرض. كانتْ مفاجأة لها مؤلمة للغاية. لكنّها واجهَتِ الأمر بنبل وعزيمة، فلم أسمعها تشتكي، أو تتذمّر، يومًا. خضعتْ لجراحة في الصدر، ثمّ لعلاجٍ كيميائي طويلٍ أنهكها. كانتْ شهورٌ عصيبة واجهتْها بشجاعة وتفاؤل. لم تُخبِر أهلها، وأخفتِ الأمر عن كلّ معارفها، وبقيتُ أنا إلى جانبها كظلّها. 

لم أجدْ نفسي أمام حالة كهذه من قبل. حرِصتُ بشدّة على عدم إشعار سلمى بما يعتريني من ارتباك واضطراب. مع ذلك، لم يكن الجانب الأصعب في مرافقتي مرض سلمى، هو علاقتي بها، بل علاقتي بنفسي. رأيتُ في ما أصابها، ظلمًا لا أحتمله، وقدَرًا غاشمًا لا أرضاه. لكن لم ينتهِ الأمر عند هذا الحدّ. قلتُ في سرّي: لا يمكنني الوقوف متفرّجاً عليها، عاجزاً أمام عذاباتها. وتكوّن لديَّ شعورٌ طاغ، بأنّه تقع عليَّ أنا مسؤولية شفائها.

ليس هذا الشعور غريبًا على عوالمي الداخلية، وإن كنتُ لا أتحدّث عنه. طالما نظرتُ بحزن إلى حال الناس، خصوصاً القريبين من المريض وأحبّته، كيف، على رغم آلامهم، لا يستطيعون له شيئًا، ويدعونه يستمرّ وحيدًا في أوجاعه، وفي طريقه المرسوم إلى موته.

ماذا يمكنهم أن يفعلوا؟ لا أدري. لكن رغمًا عنّي، وفي معزلٍ عن إرادتي وتفكيري، أحسّ أنّ في هذه الحال شيئًا من الحيوانية التي يأباها سلطان الروح. وهي تذكّرني على نحوٍ ما، يا لغرابة التشبيه، بحال القطعان البريّة التي، حين يستفردُ الأسد بواحدٍ منها ويقبض عليه، بدلًا من أن تتضامن مع الضحيّة في هجمة جماعية على المفترِس، تجفل قليلًا، ثمّ تعود إلى مكانها كأنّ شيئًا لم يكن، تاركةً الضحية بين براثن الوحش النهِم على بُعد أمتارٍ منها.

وأنا يؤلمني كثيرًا هذا المشهد. أشعر أنّي أملك طاقةً في داخلي، قادرة على شفاء سلمى، إن أدركتُ كيف أتعامل معها، وأحسنتُ توجيهها. هكذا على مدى شهور، صار وقتي موزّعًا على أمرين اثنين: مرافقة سلمى، من جهة، والانصراف اليومي، من جهة أخرى، إلى عزلة سرّية، طويلة، في شقّتي كما في أمكنة عديدة أخرى، أقوم فيها بالتركيز العميق عليها، والتأمّل في حالها، والصلاة لخلاصها. 

تكلّلتْ عملية سلمى بالنجاح، كذلك علاجاتها، وبدأتْ تتماثل شيئًا فشيئًا للشفاء. كانتْ وصلتْ إلى مرحلة النقاهة، حين داهمها الموت. لم تكنِ السكتة القلبية التي ألمّت بها، ناتجة من مرضها، بل من أسباب أخرى لم تُعرَف تمامًا.

كانت خُدعة من خُدع القدَر، الذي أصاب سلمى من مرمى مفاجئ، غير متوقَّع قطّ. لم أسلم من الشعور المفجع بالتقصير، ولا من عذاب الضمير، تلازمني وتقضّ مضاجعي فكرة واحدة: لو أمضيتُ وقتًا أطول، وانصرفتُ إلى تركيزٍ أعمق، متأمّلًا، بكلّيتي، وليلَ نهار، في حال سلمى، لجنّبتها سهم القدر الأعمى.


المساهمون