المقاومة: الحق والأداة

27 فبراير 2016
تصوير: علاء بدارنة
+ الخط -

تتغير أشكال المقاومة بتغيّر الظروف، غير أن الحق الذي تناضل من أجله هذه المقاومة لا يتغيّر. قد يتعرض لإعاقة، قد يتخاذل الذين ينهضون بعبئه، لكن جوهره لا يتغيّر. الحق بذاته ليس خاضعاً لموازين القوى.

أشكال العمل هي التي تفعل. وهو ليس خاضعاً للتقادم. طرق استحصاله قد يصيبها التقادم. وهذا ليس كلاماً عن الحق بالمعنى الفلسفي للكلمة. ليس الحق الطبيعي الذي يطلق عقال عنف "الكل ضد الكل". بل الذي يعنيه المثل الشعبي السائر "لا يموت حق وراءه مطالب".

وعندما نتحدث عن مقاومة فنحن نتحدث عن قضية. وهذه تعني، رغم عشرات القضايا المطروحة على العرب اليوم، القضية الفلسطينية حصراً. لم تبرح هذه الكلمة، للأسف، الحيِّز الفلسطيني. عندما تقول قضية، في الفضاء العربي، ينصرف ذهن السامع إلى فلسطين.

نحو سبعين سنة على النكبة، التي أسست للقضية وجعلت هذه الكلمة ترتبط ارتباطا تاماً بفلسطين، تغيّرت أشكال النضال الوطني الفلسطيني من دون أن يتغير جوهر القضية: دحر الاحتلال الاستيطاني عن أرض فلسطين وامتلال الشعب الفلسطيني زمام أمره.

ورغم أن الجزء الأكبر من فلسطين خرج، في القانون الدولي، من حيازة الفلسطينيين إلى المستوطنين الذين أسسوا "دولة إسرائيل" وحظيت باعتراف دولي فوري، غير أن هذا لا يعني التسليم بـ "حقيقة واقعة" اسمها اسرائيل، أزاحت فلسطين من الجغرافيا، أو قلصتها في مزقٍ من الأرض المبعثرة.

ولا يعني التسليم بـ"حقيقة واقعة" أن فلسطين، بما كانت عليه قبل قيام إسرائيل، لم تعد موجودة بالمطلق. فهذه "حقائق" ظرفية. وقد تكون، مثلما علّمنا التاريخ، عابرة. فلسطين التي طرد منها جزء من شعبها وشرّد في اللجوء العربي والعالمي، حق. غير أنها ليست "حقيقة واقعة" الآن.

وقبل أن تسلم القوى الأساسية في حركة المقاومة الفلسطينية، بـ "مرحلية" النضال، بل ووصول بعضها إلى حد الاكتفاء بما تبقيه أسنان البلدوزر الاستيطاني الاسرائيلي من شظايا أرض تقام عليها سلطة معاقة بكل معنى الكلمة، كان لفلسطين معنى واقعي وحقوقي مختلف. هذا ما بدأت به كلامي.

هذا ما أقصده: فالواقع المزري للقضية الفلسطينية، اليوم، وتفكك النضال الثوري، واستبداله بمفاوضات عقيمة لم تفعل غير أنها أعطت مزيداً من الوقت لعمل البلدوزر الإسرائيلية، لا يدفعنا إلى قصقصة أجنحة القضية، ولا التسليم بما آلت اليه الأمور باعتباره واقعاً غير قابل للتغيّر، والأهم باعتباره "الحق" الخرافي الذي يدعيه المعتدي بقوة السلاح لا بقوة الحق ذاته.

تغيّرت أشكال النضال الفلسطيني ولم يتغير حق الفلسطينيين في الأرض والاسم والرواية. كانت هناك ثلاث طرق أمام القضية الفلسطينية قبيل هزيمة حزيران: طريق النظام العربي الذي كان يحتكر حق الحركة في هذا المجال، وطريق القوى الشيوعية، النافذة حينها، التي كانت ترى أن القضية تحلُّ بالنضال المدني والسلمي و"التحالف الوطيد" مع "المعسكر الاشتراكي" و"طليعته الاتحاد السوفييتي"، وطريق الكفاح المسلح الذي أطلقت شرارته حركة فتح في اواسط الستينيات، مترافقاً مع صعود الحركة القومية العربية التي تأرجحت بين عباءة النظام الناصري والكفاح المسلح.

أنهت هزيمة حزيران/ يونيو 1967 طريق النظام القومي العربي لتحرير فلسطين، وأطلقت العنان لنضال الفلسطينيين المباشر. كان صعود تيار المقاومة المسلحة الفلسطينية، واكتساحه ساحات العمل السياسي التقليدي، رداً مباشراً على الهزيمة.

غير أن الثورة التي جاءت رداً على هزيمة النظام العربي وقعت في حبائله (تمويلاً ودعماً سياسياً وانحيازاً إلى الانقسام العربي) وانتهى فصلها المسلح بعد الخروج من بيروت.

أتاح منفى المقاومة الفلسطينية العربي تركيزها على الداخل. وهذا أدى الى إحداث نقلة في أشكال النضال الفلسطينية تجسدت في الانتفاضة الأولى (1987 – 1994). ثم جاءت الثانية (2000 – 2005) لتكون مزيجاً من الانتفاضي والعصياني المدني والعمل المسلح. لكنها لم تحدث الأثر الذي أحدثته الأولى من تأثير في الرأي العام العالمي، بل صنعت، بسبب "العمليات التفجيرية"، العكس.

خلاصة مبتسرة: لا مجال، في رأيي، للعمل المسلح، في الظروف الراهنة، مع دولة وحشية مثل اسرائيل. ميزان القوى مختل على نحو فادح لصالحها. وهذا يفتح المجال لأـشكال متعددة، ومتداخلة، مما هو انتفاضي وعصياني ونضالات مدنية ذات طابع استنزافي للآلة الإسرائيلية والاقتصادية.

المقاطعة سلاح لم يستخدمه الفلسطينيون في الداخل. العصيان المدني لم نصل إليه. لكن الأهم، في رأيي، المقاومة الثقافية التي تتصدى لرواية الاحتلال بلا تأتأة كما هو حال الوضع الفلسطيني تحت السلطة. إن لم تكن قادراً، الآن، على استعادة حقك، فلا تتنازل عنه، ولا تسلّم بتسمية العدو لك، وهذا أضعف الإيمان.


(كاتب أردني/ لندن)

المساهمون
The website encountered an unexpected error. Please try again later.