منظمة التحرير إذ غدت أسيرة السلطة الفلسطينية

22 يونيو 2015
القدومي وخلف في اجتماع "المجلس الوطني الفلسطيني"، الجزائر 1983
+ الخط -

واجهت حركات التحرر العربية -باستثناء منظمة التحرير- الاستعمار الأوروبي، الهادف إلى تقاسم الهيمنة على العالم، ونهب الثروات واحتكار الأسواق، وتوظيفاً للعمالة العاطلة في الحرب الإمبريالية.

أما منظمة التحرير وقبلها القوى السياسية الفلسطينية والمجتمع الفلسطيني عامة، فقد واجهت استعماراً صهيونياً يريد السيطرة على فلسطين وإقامة دولة استيطانية؛ الدولة هذه مدعومة من حركة صهيونية تبتغي تحقيق مشروعها "القومي"، وتمّ اختيار فلسطين لأسباب متعددة وكلها سياسية، وإن كانت بدعاوى دينية، وأن اليهود كانوا في فلسطين من قبل.

الهام هنا، أن حركات التحرر العربية ومنها الفلسطينية ظهرت متأخرة عن الصهيونية، وجاءت كردة فعل على استعمار تمثله دول إمبريالية، وظهرت كممثلة عن طبقات متوسطة وصغيرة، بينما كانت الطبقات الكبرى تعمل لصالح الاستعمار، أي الدول الإمبريالية؛ أي ظهرت حركات التحرر وهي تواجه قوى داخلية وخارجية، وببلادٍ، اقتصادها متأخر ومشكّل وفقاً للاستعمار الجديد ومنهوب من السلطنة العثمانية من قبل.

وبالتالي فشلت كافة حركات التحرر العربية في تشكيل دولها المستقلة لاحقاً، وكلامنا قياساً ليس بالصين الشيوعية بل بإندونيسيا وماليزيا وسواهما، وبخصوص فلسطين كان الفشل متتابعاً، من "نكبة" إلى "نكسة" إلى "سلطة وطنية" تقمع الفلسطينيين بدلاً من إسرائيل، ولاحقاً انفصال غزة وتشكيل سلطتها، ومحاولة تشكيل هويتين وطنية وإسلامية، ويمكن إضافة هويات متعددة بحسب توزع الفلسطينيين في أصقاع الأرض.

حين تشكّلت منظمة التحرير سنة 1964 تشكلت بقيادة وطنية ولاحقاً هيمنت عليها حركة فتح، والتي تشابه في ممارساتها حزب البعث والناصرية وسواهما، أي هي حركة تمثل فئات برجوازية صغيرة، وأخطأ اليسار الفلسطيني بدءاً بالجبهة الشعبية في تسليم القيادة لحركة هدفها السلطة والتحرير، بينما مشروعها التحرري لا يستند إلى رؤية وطنية لوضع فلسطين وكونها جزءاً من العالم العربي، وأن هذه القضية غير ممكنة الحل دون أن تكون قضية العرب فعلاً.

اليسار الفلسطيني لم يشذ عن اليسار العربي في الوقوف خلف القوى القومية أو التحررية المناهضة للاستعمار، وهذا وفق نظرية عمّمها "الرفاق" السوفييت، وتقول إن العرب ليسوا في مرحلة الانتقال نحو الاشتراكية، بل في مرحلة الاستقلال الوطني وبناء البرجوازية الوطنية، ولاحقاً يصلون هم إلى السلطة بواسطة الطبقة العاملة التي ستشكلها هذه البرجوازية.

أخطأ اليسار الفلسطيني كما العربي، ولم يقرأ تجربة الصين ولا فيتنام ولا كوبا وسواها؛ التجارب التي أكدت أن المعركة الوطنية والاشتراكية تتم بقيادة قوى اليسار الماركسي بالتحديد، وهو ما تمّ، وبما لا يتعارض مع المسألة القومية.

حركة فتح التي تسلّمت منظمة التحرير وطبعتها بطابعها، لم يستطع اليسار تجاوزها، وزاد في الكارثة اعتمادها برنامج الحل المرحلي أو حل الدولتين للصراع العربي الصهيوني، والذي قدمته الجبهة الديمقراطية سنة 1974، أي الاعتراف بإسرائيل والعمل من أجل دولة فلسطينية في الضفة الغربية والقدس وغزة، أي على الأراضي التي خسرها الفلسطينيون بحرب النكسة 1967، مع البحث في كيفية تطبيق حق العودة.

هذا الاعتراف لم تقبله إسرائيل، فهي دولة عنصرية وتوسعية واستيطانية وتريد ترحيل فلسطينيي 48، وليس فلسطينيي 67فقط، وأهل الضفة إلى الأردن والعالم. خطأ منظمة التحرير ليس في هذا البرنامج بل في كل رؤيتها، وهو جزء من فشل حركة التحرر العربية، واستغلالها لقضية فلسطين كأيديولوجية أكثر من صياغة مشروع تاريخي من أجل استعادتها.

وحين شكلت هذه الحركة أنظمتها كانت ديكتاتورية، وكان ضحيتها الأولى القوميين واليساريين والوطنيين، ولم تعِ خطورة مواجهة الإمبرياليات والصهيونية، وضرورة بناء اقتصاد صناعي متقدم وجيوش وطنية للمواجهة؛ فإسرائيل تمثل الإمبرياليات العظمى، وهي جيش متقدّم للسيطرة على المنطقة، وإبقائها رهينة التخلف والتأخر والتبعية وضمن الإطار الكولونيالي.

لكن الأسوأ محاولتها السيطرة على منظمة التحرير نفسها، وهذا ما تعزز بشكل كبير مع انتقالها إلى لبنان، وبدلاً من انتهاج خط المقاومة الشعبية، حوّلت فتح قوى منظمة التحرير إلى ما يشبه الجيوش النظامية، وكان هذا ينسجم مع الأنظمة الشمولية في سورية ومصر وبقية الدول العربية، وتحديداً مع سبعينيات القرن الماضي، وربما بدفع منها.

وتركت جبهة لبنان مفتوحة لـ "تصفية" المقاتلين الوطنيين والقوميين والأمميين أكثر من أن تكون من أجل استعادة فلسطين، ولكن ومع تزايد اليأس من قبل الفلسطينيين وميل إسرائيل للاستقرار، كان لا بد من إغلاق هذه الجبهة في صيف 1982.

منظمة التحرير التي تبنت حل الدولتين، والتي تسيطر عليها قيادة برجوازية استغلت انتفاضة 1987 ليس لتتخلص من برنامجها السياسي القائم على الدولتين بل لتنهي الانتفاضة، وتستغل تضحيات الفلسطينيين، وتبني سلطتها كما حال كل الأنظمة العربية المنبثقة من حركات التحرر الوطني.

وبدخولها إلى جزء من أراضي 67 وتأجيلها لقضية القدس واللاجئين والمستوطنات، واعتقال الناشطين الرافضين لمشروعها قضت على أي أمل بتحقيق دولة فلسطينية إلى جانب إسرائيل؛ الأخيرة تهربت من مقررات أوسلو ومن كل القرارات الدولية، والآن تسيطر على أكثر من 60 في المائة من أراضي الضفة الغربية عبر شبكة المستوطنات!

الأمور بخواتيمها كما يقال، ونتائج حركات التحرر العربية ومنها منظمة التحرير توضح أنها لم تع شرطها التاريخي، وأن قيادتها البرجوازية لم تحرر أجزاء من البلاد العربية وفلسطين، وقد تحوّلت تدريجياً إلى أنظمة لخدمة الاستعمار أو الإمبرياليات، وهو ما كرّس واقع التبعية والتخلف والتأخر، وكل أشكال المظلوميات الاجتماعية والقومية وغيرها.

الآن، تقف منظمة التحرير ضد الفلسطينيين، وكذلك حركة حماس وكافة الأنظمة العربية. وفلسطينيو الخارج، مدعومين من فلسطينيي الداخل، ساهموا بقسطهم في الثورات العربية متأملين في تغيير يؤدي إلى إعادة طرح قضيتهم مجدداً.

الحقيقة أن الثورات العربية لم تفهم أن الإمبرياليات وإسرائيل لن تسمح لها بالانتصار؛ فالحروب التي اندلعت في سورية واليمن وليبيا والوضع القلق في مصر كلها تخدم إسرائيل وضد قضية فلسطين، وقد حدثت في الأعوام القليلة المنصرمة نكبة جديدة شملت فلسطينيي العراق وسورية، وبالتالي هناك ضرورة لطرح قضية فلسطين بصورة مختلفة عما فعلته منظمة التحرير ولا تزال مستمرة فيه، وكذلك عما فعلته حركة حماس المكتفية بإمارة غزة.

يمكن القول إن منظمة التحرير انتهت كليا، وما تفعله داخلياً وفي المؤسسات الدولية، محكوم لفئات طبقية معادية لحقوق أغلبية الشعب الفلسطيني وانطلاقاً من فكرة بناء دولة فلسطينية، والتي تكاد تتلاشى من الواقع بحكم توسع المستوطنات وتهجير الفلسطينيين من القدس، وأن حماس التي حصدت أصواتاً في الانتخابات لم تشكل بديلاً لاسترجاع فلسطين وانحصرت بغزة.

هذه القضية يتطلب حلها رؤية جديدة تنطلق من قراءة النتائج الكارثية على قضية فلسطين ورفض حل الدولتين، ورفض أي شكل للحكم في فلسطين، وبما يعيد طرح القضية الفلسطينية كقضية تمثل كل فلسطين، وبأنها قضية العرب وليست خاصة بالفلسطينيين.


(باحث سوري)