"الفلسطيني" الذي جرى تمثيله

21 يونيو 2015
روضة أطفال في مخيم شاتيلا للاجئين، 1979
+ الخط -

التنافس، وأحياناً الصراع الداخلي، الفلسطيني على من يستطيع "تمثيل الفلسطيني" قد يكون هو الأكثر تعبيراً عن النضال المزدوج ضد المحو الصهيوني لجغرافية فلسطين الإنسانية والطبيعية، وضد تغييب نقد ذاتٍ شُغلت بالكلمات بدل أن تنشغل بمواجهة مسألة الهوية والانتماء والتحرر من استعمار المخيلة.

لم يكن مسموحاً إيضاح حدود ومجالات هذا الصراع وممثليه منذ أن تم تكريس وجود "منظمة التحرير الفلسطينية"، ليس بوصفها الجهة التي تقوم "بتمثيل" الفلسطيني، أي تصويره وتقديمه إلى ذاته وإلى العالم فقط، بل هي الجهة "الوحيدة" و"الشرعية" كما هو الرائج، والجهة التي تمنع وتصادر أي صورة تمثيلية أخرى لا تتفق مع رؤية الممسكين بزمامها المالي والعسكري والسياسي.

ولكن أي "فلسطيني" قامت هذه المنظمة بتمثيله؟ هل مثلت الغالبية الفلاحية أم مثلت أقلية من سكان المدن هم خليط من بقايا أثرياء العصر العثماني والاحتلال البريطاني ووسطاء الأسواق الغربية قديماً والصهيونية حالياً؟ ثم ما هي نوعية "المفكرين" و"المثقفين" و"السياسيين" الذين قاموا بتمثيل وتصوير واقع "الفلسطيني"، وهل امتلكوا قدراً عالياً من الألمعية والنزاهة والتجرد وسعة الأفق، أم كانوا أشباه مفكرين ومثقفين وسياسين أسرى الطبقات التي ينتمون إليها، أوأسرى ما هو أضيق؛ المنافع الذاتية التي لاتتجاوز منافع الفرد ولا تصل حتى إلى منافع عائلة أو قرية أو طبقة؟

الغريب في التجربة الفلسطينية أن هذه الأسئلة لا تزال مطروحة منذ ما يقارب مائة عام من دون أن تجد إجابات واضحة ومحددة، بل وتم قمع كل من حاول إثارة هكذا أسئلة وما استتبعته من تساؤلات ومطالبات بتفسير ظواهر محيرة:

1- الظاهرة التي لاحظها الروائي غالب هلسا، ظاهرة إبعاد المثقفين عن الثورة الفلسطينية، فبدل أن يستقبل "الممثل الوحيد والشرعي" ألمع العقول العربية والعالمية، أبعد المثقفين عنه، وأدخل ودمج في إطاراته أشباه المثقفين بعد أن أوقف نموهم العقلي والروحي.

2- ظاهرة محدودية اهتمام الباحثين بالخبرة الفلسطينية الخاصة، وبمعاناة الشعب بفئاته المختلفة سواء أثناء الاحتلال البريطاني أو في التشرد أو تحت الاحتلال الإسرائيلي، كما يرى إبراهيم أبو لغد.

3- ظاهرة تحدثت عنها الباحثة روز ماري صايغ، وهي تتجول بين الفلاحين الفلسطينيين في مخيمات لبنان، حين عبرت عن عدم رضاها عن التقديم الرسمي العربي والفلسطيني لـ"القضية"، ليس بسبب طريقة التقديم أو شكلها أو عدم توافقها مع أنماط التفكير الغربي، فهذه أشكال وضعف تقانة يمكن التغلب عليها، بل بسبب كون المشكلة تكمن في ماهو أعمق؛ في نقص بالمضمون الإنساني والاجتماعي، وفي الابتعاد عن الجماهير صاحبة المعاناة الأساسية.

إذاً، لم "يُمثل" الفلسطيني حتى الآن رغم وجود من يزعم أنه يمثله، وهذه الظواهر المحيرة، وغيرها كثير، لا يمكن نسبتها إلى أن هناك من يسئ تمثيل الفلسطيني، حين يتجاهل خطابُ مثقفي "الممثل الشرعي والوحيد" أغلبية الشعب الفلسطيني الفلاحية ومضامين تجربتها الإنسانية والاجتماعية، أو حين يتسلى أشباه مثقفي حظيرة هذا الممثل بالكلمات راكضين وراء مراعيهم الخاصة، ويمنع أي فلسطيني خارج هذا الخطاب والتسلية حتى من تمثيل نفسه أو شعبه وفق رؤية مختلفة، ويطارد ويتعرض للتشويه والقتل أحياناً.

ليس الأمرُ أمرَ إساءة أو سوء فهم، بل هو أمرُ تعبير عن بنية سياسية/ثقافية/ اجتماعية لم يتم حتى الآن تفكيك عناصرها، ومعرفة الآليات التي تحكمها، بنية هي نتاج خليط مجتمعات، فيها شيء من المجتمع الفلسطيني وفيها أشياء من مجتمعات عربية.

وفي مثل هذه البنية، التي هي بنية منظمة التحرير الفلسطينية، يتحكم أبرزُ عنصرين، إلى جانب عناصر أخرى، هما غياب النقد الذاتي غير المفكر فيه أصلاً وبالتالي غياب القدرة على مواجهة العدو الصهيوني بكفاءة، والشتات الفلسطيني الذي منع بروز قوى اجتماعية بدل بروز ظاهرة الفصائل الأكثر شبهاً بالتجمعات البدوية الساعية وراء الكلأ والماء في أي أرض وتحت أي سماء، وبالتالي تحول النضال الفلسطيني إلى نضال سياحي وليس إلى خبرة تراكم خبرة أخرى.


(كاتب وناقد فلسطيني)

المساهمون