مطر في الثمانينيات
قطرات مطر تدندن على سقف منزلنا القرميدي في الثمانينيات. أفتح عينيّ فأجد دلوين على سريري، أحدهما بلاستيكي أزرق والآخر أخضر يانع.
تخبرني والدتي ألا أخبر أحداً أن سطح منزلنا يرسب وينقط ماء. وعودة المطر وحب عزيز أو "خرنزع" - بالتعبير المحلي - من قناطر درب كنيسة القيامة في البلدة القديمة يعني أن ينقلب المهجع رأساً على عقب. أحب قطرة المطر التي تخترق جدار السقف ثم تهلّ على الجبين. أشعر أن رائحة الأرض تزورني من السماء. ابتسم لشكل القطرات العالقة على الشبّاك.
تصطحبنا والدتي إلى المطبخ وتعدّ الفطور: حبيبات زيتون شهية الحموضة، بيض يسلق على نار هادئة، خبز محمّص، وجبينة كوجه البدر مرتشة بحبات بركة سوداء تفوح برائحة البلد، وأحياناً مربى مشمش وخشخاش من صنعها مع زبدة تذوب على وهج الحرارة. في أيام البرد يُغمس دبس العنب في الطحينية (زيت السمسم اللزج) ليصبح خلطة لمداواة برد الصدر.
نتناول قليلاً من الخبز بعد أن نغمسه برفق في الزيت البلدي، ثم نرشه بالزعتر المقدس بإيقاع متناوب، ونتناوله مع كوب شاي بالمريمية على وقع صوت مذياع أمي: "يا صباح الخير ياللي معانا... الكروان غنى وصحانا، وصحانا".
على رأس طاولة "السفرة" ترقد أنواع مختلفة من "المونة" الطازجة المرصوفة على "بشكير" (منشفة) لتعود الى الحياة بحلّة جديدة: بابونج، مريمية، نعنع، ملوخية، سلق.
تخرج أمي إلى البلكونة المطلة على بركة سليمان، في منزلنا في ذلك الوقت، لتشعل صوبة الغاز. رائحة قوية تفوح لتنافس رائحة الرطوبة. يبدأ نار الغاز بالاشتعال رويداً رويداً. نحرّك أقدامنا الباردة إلى مصدر الدفء. نقرّب أصابع اليد باتجاه وهجه الصاعد إلى الأعلى. تخاف أمي علينا من اشتعال الحرارة. أحياناً تهترئ الملابس قليلاً أو تحترق وتصبح خدودنا كرزية ونحن نجلس على السجاد القرمزي الذي يغطي جزءاً من بلاط الأرضية.
بول غيراغوسيان، "عائلة"، زيت على قماش، (1963) |
كان لصوبة "علاء الدين" السحرية عدة استخدامات أخرى: وضع مغلاة الشاي حتى تبدأ بالصفير وسقوط الرذاذ على حافتها، تنشيف الملابس، تدفئة الوجه لدرجة نسيان الأنف البارد، وإشعال حبّات الكستناء البنية في أيام الثلج النادرة كي تتحول من رؤوس يابسة تباع على أرضية القدس الحجرية، إلى ثمار قابلة للأكل بعد عناء خدشها ثم تقشيرها وكشف جوهرها ليجلب أجواء ما لسكان المدينة. ندف الثلج قد تكون في طريقها لتكسو المدينة، وسرعان ما ستذوب بعد المشهد لينهمر الماء برفق وينساب من القناطر بإيقاع موسيقي.
لغة/ انتفاضة
أخذت بتعلم اللغة العربية حين بلغت عامي الرابع. كنت قبلها أتكلم الأرمنية. في أحد الأيام أرى حلماً غريباً ما زلت أتذكره. أستيقظ وأراقب انعكاس وجهي من المرآة. جانب شعري الأيمن مسخ بالشيب الأبيض مع أنني لم أتجاوز الخمس سنوات.
أسرع إلى المرآة فأكتشف أنه ليس من أثر الطباشير، وان البقعة راسخة على شعري الاسود. تخاف والدتي وتصطحبني من طبيب إلى آخر. في المدرسة تصبح كنيتي المزعجة "إم الشيب الأبيض"، "صاحبة الخوفة البيضاء" والتي تترافق مع أنفي الجبلي وتأتأتي وحشرجتي بين اللغات. أتوغل في عالم العزلة.
نمشي إلى المدرسة. تراقبنا والدتي ونحن ندخل عتباتها قرب ساحة باب الخليل. في الصباح تضع إدارة المدرسة ترانيم. "انشالله القمحة اللي انزرعت في قلوبنا، تموت وتنمى وتزهّر محبة". الأرجل باردة أو "مفرزّة" حسب تعبيرنا. نرى رؤوس الطالبات أمامنا. تفتيش صارم على الجسد والزي والسلوك الموحَّد وطول المراييل.
ندخل الصف. المنهاج أردني تم استخدامه في "القدس الشرقية" في الستينيات ولم تطرأ عليه سوى تعديلات بسيطة. يتوجب علينا تكرار جملة "وكان العرب.. يتنقلون من مكان إلى آخر طلباً للعشب والماء". مناهجنا هروبية، لا تحاكي واقعنا أو مكاننا. ندرس شيئاً مفقوداً ونحصد وهماً بعد آخر، لكنها تبقى رحلة تأخذنا إلى ذاكرة جماعية. نتعلم الجغرافية الفعلية بعيداً عن المدارس، لندرك ألم الفقدان.
الأستاذ عيسى يشير إلى اللوح بكفوفه السوداء، الدارجة في ذلك الوقت، التي تغطي نصف الأصابع. كان ذلك حلاً عملياً بالنسبة له كي يرسم خارطة بلاد الشام بالطبشورة في أيام البرد القارس بأسلوبه المشوق. كان أحياناً يخرج عن النص المقرّر فيحدثنا عن بعض الحقائق السياسية، فنصغي وسط شعور بأن هناك رقابة إسرائيلية في كل مكان حتى في الصف، وأن علينا أخذ الحيطة والحذر في كل كلمة نتفوه بها. حصص اللغات مفيدة وممتعة لدرجة تجعل العين تبرق توقاً للمزيد. هل قساوة الحياة تقضي على لمعة العينين؟
سنشارك في مسرحية، يقولون. أخاف من الأضواء. أنكمش. تحاول المربية فريال إرشادي. "طوملي" تقول. لا أفهم قصدها. أهلي لا يستخدمون هذا الكلمة. نتحدث الأرمنية مع لغات متنوعة في المنزل. "لا تجيد العربية. لا تنطق كلمة واحدة"، تقول بنبرة إقصائية. تمنعني من المشاركة. أفرح بالهروب من الدور، ولكنني أشعر بوحدة وبغربة حين أقف في زاوية مع طالبة أجنبية شقراء اسمها روزموند أراقب بنات صفي يمثّلن. أعيش مسرحية أخرى في خيالي.
أبدأ باستكشاف خطواتي في اللغة وأنطق. يبقى كلامي العاميّ خجولاً. أجد الحل السحري: القراءة بتمعن، وعيش الحالة وتفكيك عناصرها، وربطها بأمور أخرى، ومع جمهور خفي متخيل، وبحركة مشي درامي، ذهاباً وإياباً، تمنح وجداً صوفياً ما. أبدأ بالدخول في حالة وجد وأطرب من كل شيء أدرسه. تترسخ الكلمات في وجداني.
بول غيراغوسيان، "صراع الوجود"، زيت على قماش، 130 × 200 سم (1988) |
الانتفاضة بدأت. الأخبار تظللنا. بعض الأطفال ينشدون أغاني وطنية نكررها جميعاً. يتجرأ المعلمون على ذكر بعض "الممنوعات" وقتها مثل كلمة "فلسطين". شباب مقدسيون يجازفون بالكثير لمجرد رفع العلم الفلسطيني الملون.
وهج ما يدخل إلى المنزل والصفوف. تغلق المدرسة مراراً وتكراراً أثناء الإضرابات المتناثرة بعد كل بيان ينتشر. نتابع الأخبار. تغلق الجامعة التي يعمل فيها والدي. يزيد الضيوف. نسمع صدى أصواتنا ومختلف الجيران ينادون المعلمة "جورجيت" القاطنة في بلكونة أخرى بالسؤال الجوهري "متى ستفتح المدرسة؟". يجلب لي والدي صحيفة "القدس"، وكتب "المجموعة الخضراء" وبعض كتب الأطفال المطبوعة في بغداد.
أختلي في زاوية من المنزل فيها رفوف كتب وفرن دائري. في منتصف الرف الأخير منشورات جامعات فلسطينية، وكتب دينية، وإلى جانبها أصغر الكتب حجماً: كتب الشعر وأعمال كتاب فلسطينيين بعضهم في الزنزانة والمعتقل. مع اندلاع الانتفاضة، تتزايد أعداد هذه الكتب الصغيرة التي تحفر عدة مشاعر. أقرأ ببطء وأتوغل من جديد.
أصاب بـ "الحمى المالطية" في سن السابعة وأتغيب عن المدرسة. أمي تضع كمادات ماء بالعرق على رأسي. أقرأ أكثر. مع مرور الوقت، تصبح العربية ملجأي، لغة الألم والحب والاغتراب، لغة مراقبتي، وعجزي عن الحديث اليومي بطلاقة، ولغة تمردي.
أحلم - في ذلك الوقت- بالتعبير بأريحية، وبالعودة الى العالم الخيالي الذي جئت منه. أحاول رسم تفاصيله، والفارس والراعي والملك الحكيم الذي سأحبه، وأحياناً بعالم تعيش فيه ملكات وأميرات وجنيات فقط. تعترض أمي وتحاول إدخال فكرة البطل فارتان الأرمني في رأسي.
في إحدى السنوات تقرر المديرة منى مكرزل تغيير منهاج اللغة العربية. سنستخدم المنهاج اللبناني وكتاب "المشوّق"، تقول. تواجه معارضة من عدة أطراف، ويتم تأويل الأمر على أنه سياسي، الأمر الذي يجعلها تصرّ أكثر على جلب الكتب من لبنان وادخالها على الرغم من الرقابة.
تصلنا الكتب. يعجبني منهاجها الجديد الملون. أحب العربية أكثر. في المدرسة أحلم بالمشاهد التي وصفها أبو القاسم الشابي، ومع مرور الأيام، أقع في غرام جبل أرارات وجبران خليل جبران، وسرعان ما أكتشف أن لديّ منافسة شرسة. استمتع بشيفرات قواعد اللغة العربية، فيصبح الإعراب آلة موسيقية أطرب بها وأتوق إلى المزيد.
ما تبقى لأم إبراهيم
بعد المدرسة أحياناً نزور جدتي من أمي إنصاف الحنضلية "أم إبراهيم" من بيت لحم التي تعيش في بطن حارة النصارى. تضع طشتاً على حضنها وتبدأ بتنقيب العدس. تفرد "شرشفاً" وخيطاً على الأرض كلعبة مسلية لنا. أحياناً تعد المحشي بالباذنجان البتيري أو حساء الشوشبرك أو كوسا بلبن بكلمتها المعهودة "دفي بُطنِك يمّا".
أرى من نافذتها أقدام طلبة إحدى المدارس صاعدين نازلين من الدرج، وربما لا يلاحظون أن خلف الدرج شبّاك وأسفله يقبع أناس يشربون أكواب الشاي ويقرضون البزر ويراقبون أحذيتهم. صديقاتها الأرامل ينضممن للجلسة، ونتأفف نحن من رائحة القهوة والسجائر و"زعوت" إحداهنّ. تجلب برتقالة ذهبية بيضاوية ريحاوية ورمانة وتبدأ بتقشيرهما وإخراج اللب واللؤلؤ.
بول غيراغوسيان، "نساء وورود"، زيت على قماش |
"كلي يمّا. مش منيح تضعفي" تقول. على الجدار تقويم "رزنامة" عليها صور مشرقة كاثوليكية مع قديسين مثل مار فرنسيس ومريم العذراء تجلبها كل عام من دير المخلص في البلدة القديمة.
مساحتها المقدسة هذه قرب فرن جبر في ساحة حارة النصارى هي ما تبقى لـ "أم ابراهيم" بعد أن ترملت، وبعد أن قام الإسرائيليون بهدم منزلها في إحدى أحياء البلدة القديمة القريبة إلى حارة الأرمن في الستينيات.
لها طقوس خاصة بها، مثل أن تغطي شعرها بشال أحياناً، ومذياعها القديم، والبابور الذي تستخدمه كي تستحم بالماء الساخن، هذا إلى جانب بعض المواسم الشائعة في الحارة مثل أكل المجدرة بالبصل أيام الجمعة، ومراسم المشي من البلدة القديمة إلى "ستنا مريم" في جبل الزيتون في الفجر كل خريف، واختتام الشهر المريمي بالورد في أيار، وفي الصيف الذهاب الى دير مار الياس في الطريق بين القدس وبيت لحم.
نشاهد الرسوم المتحركة بالفصحى، التي تأتي قبلها تلاوة للقرآن الكريم على التلفاز ونحن نتناول حبيبات "الأرز بالحليب" الساخنة. نستلقي وتغطينا هي بحِرام (بطانية) صوف سميك وخشن كي ننام قليلاً. تبدأ بعجن مثلثات "القراص بالسبانخ"، وتضيء مذياعها وتولّع البابور.
تطرق قطرات المطر من جديد وتروي الغياب.
(باحثة فلسطينية/ القدس)