"ترويض القدس": انقلاب المعادلة مرة أخرى

17 أكتوبر 2015
شعفاط، تشرين الثاني/ نوفمبر 2014 (تصوير: أحمد غرابلي)
+ الخط -

ينفق واضعو السّياسات الاستعمارية أوقاتهم وجهودهم في رسم سياسات التّدخل في محاولة لتشكيل المجتمع الفلسطيني تحت الاستعمار لخدمة أمن المستعمرة. أبحاثٌ كثيرة هنا وهناك، أيامٌ دراسيّة تحت عناوين "القضاء على الفجوات بين شرقي القدس وغربها".

تفاصيل عن كلّ حيّ وقرية فلسطينية في القدس، رسمٌ لملامح الشّخصيات التي قد تعمل وسيطاً بين المجتمع وبين الاحتلال، ملايين من الدولارات لبناء مرافق تعليميّة ومراكز شبابيّة تابعة لبلدية الاحتلال، ترويج لـ"الجنسية الإسرائيلية" و"الخدمة المدنية"، وغيرها الكثير.

في غمضة عين، يتحول كلّ هذا إلى مجرد هراء لا أثر له. في اللحظة التي يقرر فيها شاب فلسطيني من القدس أن يُشغل دوّاسة البنزين باتجاه المستوطنين، أو أن يغرز سكيناً في أجسادهم، تتداعى هذه الدراسات والسّياسات وتبدأ خيوطها بالتفكك شيئاً فشيئاً، بينما يرتبك واضعوها وتنكشف عن وجوههم الأقنعة.

في لحظة الارتباك هذه التي يعيشها المستعمِر، يعيش الفلسطيني لحظة الحقيقة، يعيدُ توازنَ الرعبِّ بينه وبين مستعمرِه، يتذكر كُنْهَ العلاقةِ بينه وبين ذلك المستعمِر. بينما يعود ذلك الأخير إلى دفاتره القديمة يقلِّبُها، عله يجد "حلاً" أكثر جدوى، هل يفرض المزيد من العقاب؟ أم ينوّع في "الكلام الناعم والاحتواء"؟ يبدأ المستعمِر في ترتيب أوراقه، ووضع المزيد من الخطط، ثمّ البدء بالتنفيذ، لكنّ سكيناً أو حجراً تكفيان بإعادة الأمور إلى المربع الأول، وهكذا.

قبل اندلاع هبة الشّهيد محمد أبو خضير بأيام فقط، وفي 29 حزيران/ يونيو 2014 صادقت حكومة الاحتلال الإسرائيلي على خطّة لتعزيز سيادتها على القدس تمتد ما بين الأعوام 2014 وحتى 2017، وذلك بتكلفة تصل إلى 100 مليون شيكل إسرائيلي، أسمتها: "خطة زيادة الشّعور بالأمن الشخصي والتطوير الاقتصادي الاجتماعي في القدس لصالح كلّ سكانها".
وقد جاءت هذه الخطّة حصيلة اجتماعات مكثفة امتدت بين كانون الأول/ ديسمبر 2013 وحتى أيار/ مايو 2014 ناقشت تحت الإشراف المباشر لمكتب رئيس حكومة الاحتلال الإسرائيلي الطرق الأفضل لمحاربة "إلقاء الحجارة" في القدس.

وكما هو واضح من اسمها، تسعى الخطة الإسرائيلية إلى تحقيق هدفين؛ الأول هو تعزيز ما أسمته "الأمن الشّخصيّ" في القدس (والمقصود به طبعا أمن المستوطنين الشخصيّ)، عن طريق نشر المزيد من أفراد شرطة الاحتلال، وقيام وزارة المالية الإسرائيلية بتمويل 40 "وظيفة" جديدة في وزارة الأمن الداخلي تخصّ التعامل مع أمن القدس.

أما الهدف الثاني فهو "تطوير شرقي القدس اقتصادياً واجتماعياً"، ويشمل هذا الهدف تطوير البنى التحتية مثل تعبيد الشّوارع وتحسين قنوات الصّرف الصحيّ، وبناء المدارس، بالإضافة إلى التأثير على الوعيّ الوطني، وزيادة الارتباط بالمؤسسات الإسرائيلية، ويشمل ذلك زيادة عدد الطلاب الذين يدرسون وفقاً للمنهاج الإسرائيلي، وتشجيع الطلاب على الالتحاق بالجامعات الإسرائيلية، وبناء علاقات مع شخصيات "معتدلة"، وغيرها الكثير.

وينطلق الهدف الثاني من الافتراض أن تحسين الظروف المعيشية للفلسطينيين في القدس وتقليل نسبة البطالة والفقر، سيؤدي بهم إلى التفكير بمنطق "الربح والخسارة"، في معادلة يكون تعريف الربح فيها فردياً متعلقاً بنجاح الفرد واستقراره اقتصادياً وتطوير ذاته، بعيداً عن أيّ "انشغالات" سياسية.


استهداف الحاضنة الشّعبية

ستّة شهور قضاها المخططون الإسرائيليون لرسم ملامح هذه الخطّة، سارعت "الحكومة" للمصادقة عليها والاحتفاء بذلك. ربما لم يسمع الكثير من المقدسيين وخاصّة الشّبان منهم بهذه الخطّة، لكنهم كانوا خلال أقل من أسبوع من الإعلان عنها منتشرين في شوارع المدينة يضعون أمامها أول التحديات. فبعد استشهاد الطفل أبو خضير، توسعت دائرة المواجهات مع شرطة الاحتلال في مختلف أحياء المدينة، وطاولت أحياءً لم تعتد وقوع مواجهات فيها مثل شعفاط وبيت حنينا.

وبينما كان معدل إلقاء الحجارة خلال شهري آذار/ مارس ونيسان/ إبريل 2014 ما يقارب 390 "حادثة"، توسعت منذ تموز/ يوليو 2014 دائرة الممارسة الثورية الرافضة للاحتلال، لتشمل إلقاء الحجارة، والمفرقعات التي اشتهرت بها تلك الهبة، والزجاجات الحارقة، وصولاً إلى عمليات الدهس بالسّيارات، وإطلاق النّار على مستوطن كما فعل الشّهيد معتز حجازي.

سريعاً، أقرت المزيد من الخطط والقرارات، بدلاً من الكلام عن "التطوير الاقتصادي"، بدأت بلدية الاحتلال بالتعاون مع شرطة الاحتلال باستهداف الحاضنة الشّعبية للفعل الثوريّ. شمل ذلك مخالفات وإغلاق المحال التّجاريّة في مناطق المواجهات، وتعزيز الرقابة على البناء غير المرخص، وهدم بيوت الشّهداء، وفتح ملفات كلّ من يثبت توّرط ابنه أو أحد أفراد عائلته بأي "قضية أمنية" ضدّ الاحتلال، وغير ذلك.

ما إن هدأت الهبة الشّعبية مع دخول شهر تشرين الثاني/ نوفمبر 2014 حتى بدأت الوجوه الإسرائيلية الحقيقية والغاضبة، والرصاص المطاطي الذي أفقد كثيرين بصرهم في تلك الهبة بالانسحاب تدريجياً من المشهد، لتحلّ محلها الوجوه المُزيّفة والمنمقة لرئيس بلدية الاحتلال نير بركات ولضباط وقادة شرطة الاحتلال في القدس.

بدأت حينها شرطة الاحتلال بتنفيذ بعض الجولات إلى المدارس والاجتماع مع مديريها، ومع من ينصبون أنفسهم "مخاتير" عن الأحياء أو العائلات المقدسية. وعاد نير بركات، رئيس بلدية الاحتلال، يتجوّل في بعض الأحياء المقدسية لافتتاح مدرسة أو شارع أو عيادة، ويلقي الوعود ببناء المزيد وتعويض عقود من الإهمال مارسته بلديته في تلك الأحياء.

في المقابل، تكثفت البرامج ذات الطابع التعليميّ أو التّرفيهيّ المنفذة من قبل بلدية الاحتلال، التي تحمل وراءها الرغبة في "الحفاظ على الأمن" عن طريق إشغال وقت الطلبة والفتية. ولبعض من الوقت، بدا أن خطط الاحتواء والضبط قد تنطلي على المقدسيين، خاصّة في ظلّ غياب برنامجٍ وطنيٍّ سياسيٍّ جادّ يصنع البديل ويعزز صمود الفلسطينيين في مواجهة آلة التدجين الإسرائيلية. لكن القدس تثبت مرة أخرى أنها عصيّة على الترويض.


أوهام "القدس الموحَّدة"

فجأة يحدث انقلاب المعادلة مرة أخرى؛ زجاجات حارقة، عمليات طعن، منع من دخول المسجد الأقصى، فتنقلب الوجوه الإسرائيلية مرة ثانية وثالثة، وتعود الاجتماعات الموسعة والمصغرة والطارئة، في الأعياد اليهودية وخارجها، ويبقى السؤال حائراً: "متى يتحقق الضبط الكامل والتامّ لهؤلاء الفلسطينيين؟ متى تنجح الخطط؟".

أما الجواب، فيبدو واضحاً من تشابه الإجراءات والسياسات، إذ لا خيارات جديدة تُذكر في هذه السياسات، حتى بات الفلسطينيون يعرفون ماذا سينتظرهم بعد كلّ هبة، من دون أن ينتظروا انتهاء اجتماع "المجلس الوزاريّ المصّغر". كان آخر هذه القرارات عزل وحصار الأحياء والقرى المقدسية بالمكعبات الإسمنتية والحواجز العسكرية، وهل هذا جديد؟

لقد جُرّب قبل ذلك مرات ومرات، وليس أدلّ على ذلك من قرية العيسوية التي لها فصول طويلة ومتكررة مع الإغلاقات، وما زالت حتى اليوم عصية على الاحتلال، وما زالت هي الشّعلة النابضة بالمواجهات حتى لو كانت بقية الأحياء المقدسية "هادئة".

وأمام هذه الجولات المتكررة من الهدوء والتصعيد، يثبت عياناً أن هناك ما هو عصيّ على الضبط والترويض، وأن برامج الاحتواء وإغراءات الاستقرار الاقتصادي والتعايش تنسفها أول قطرة دم، وينقض غزلها أول حجر وزجاجة مولوتوف. بالنسبة للفلسطينيين، فهم لم يعلّقوا يوماً أملاً على المحتل، يعيشون يومهم ويبحثون عن رزق عيالهم، ويكررون "بكرا بتفرج"، أو يرددون كلمة الأغنية التي أصبحت شعاراً: "أنا ابن القدس ومن هون، مش متزحزح قاعد فيها".

وبينما هم ينتظرون الفرج، وبينما هم يصنعون الفعل ويقلبون المعادلة، يملك الفلسطينيون بعض الوقت ليتأملوا ساخرين خطط عدوهم تنهار. فعدا عن كون إغلاق القرى وحصارها سياسة قديمة متكررة، فإنها تنسف المشروع الإسرائيلي الذي كان يردد دوماً أن القدس "عاصمة موحدة للشعب اليهودي".

على بعد أمتار قليلة من مداخل هذه الأحياء الفلسطينية المغلقة، كان الباحث الإسرائيلي نداف شرجاي يحاضر في أحد مراكز الأبحاث الإسرائيلية ليلة الأربعاء عن كتابه الجديد "وهم التقسيم"، والذي يرى فيه أن تقسيم القدس بين الفلسطينيين وبين الإسرائيليين مجرد وهم، وأن أحد أسباب ذلك متعلق بالفلسطينيين أنفسهم الذين يريدون "البقاء في القدس تحت السيادة الإسرائيلية لوجود امتيازات تتعلق بمخصصات التأمين الوطني وحرية الحركة وما إلى ذلك". خارج المركز الذي كان يحاضر فيه، لا حاجة لمناقشة شرجاي أو دحض افتراضاته، فكلّ شيء مثبت هناك رأي العين.


سماجة بلدية الاحتلال

أما نير بركات، الذي يحاول ترويج القدس كمدينة الأديان الثلاثة التي تتمتع بالحرية الدينية تحت السّيادة الإسرائيلية، فقد كان في أيلول/ سبتمبر الماضي يحاضر في مجموعة من البرلمانيين المؤيدين لدولة الاحتلال، ويحاول إقناعهم بأن القدس واحدة من أكثر المدن "أماناً" في العالم، وليس أدل على ذلك برأيه من أن حالات "القتل" في نيويورك ولوس أنجلوس أكثر من معدلاتها في القدس.

وتظارف بركات بسماجته المعهودة قائلا إنه عندما يخرج من القدس ويسافر الى مدن العالم يصلي لسلامته ويصلي ليعود من المدن غير الآمنة إلى "مدينته الآمنة" بسلام. لم يمضِ أسبوع على كلام بركات، حتى انقلبت الصّورة، وأصبح بركات يبرر حمل السّلاح في القدس بالقول: إن "حمل السلاح هو دليل على وجود الأمن وليس على انعدامه"، فيما التقطته عدسات الكاميرات، وهو يحمل سلاحه متجولاً على مداخل الأحياء المقدسية، فيما بدأ كثير من السّياح الذين يحاول جذبهم يتراجعون عن حجوزاتهم.

في نهاية المطاف، من المؤكد أن سياسات العقاب والاعتداء والتنكيل بحق الفلسطينيين في القدس ستتصاعد في الأيام القريبة، ومن ثم ستعود مخططات الاحتواء والهيمنة والوجوه المزيفة للظهور مجدداً مستعطفين رضا "أهالي القدس الشّرقية"، على حد وصفهم. قد يعني ذلك أن الهبة الشعبية ربما ستتراجع شيئاً فشيئاً، خاصة في ظلّ التراجع في صعودها في مناطق الضفة الغربية وأراضي الـ48، ولكنه لا يعني بتاتاً أن معركة ما قد حُسمت لصالح الاحتلال.

ومرة أخرى سينكفئ الباحثون وواضعو السياسات على رسم سياسات تدخل وهيمنة جديدة، لتأتي جولة مقبلة من المواجهة تُثبت بأن تلك السياسات غير مجدية، وأنها ستنقلب على واضعيها.


(صحافية فلسطينية/ القدس المحتلة)

اقرأ أيضاً: هذا الدم 

المساهمون