ماضي جنوب أفريقيا ومستقبلها

07 سبتمبر 2015
تطور اقتصادي تعيشه دولة جنوب أفريقيا (Getty)
+ الخط -
قبل نحو خمسة وعشرين عاماً، وعندما كان العالم مقبلاً على ثورة في تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، كانت شرائح كثيرة من مجتمع جنوب أفريقيا لا تزال تحارب نظام الفصل العنصري المدعوم من البيض، وتعاني من ويلات الفقر في دولة مفلسة تقريباً. اليوم، وبعد ما يقرب من عشرين عاماً على إرساء نيلسون مانديلا، رئيس الدولة السابق وأبرز مناهضي نظام الفصل العنصري، لدولة الحق والقانون، فإن جنوب أفريقيا باتت قوة كبيرة في منطقة أفريقيا جنوب الصحراء، وثاني أكبر اقتصاد في القارة الأفريقية، بعد نيجيريا، حيث انتقلت مباشرة من عصر "قرع الطبول" إلى تكنولوجيا الهاتف المحمول، من دون المرور بجيل كامل من تكنولوجيا الهاتف الثابت! والآن، تقوم جنوب أفريقيا، مع إطلاقها قمراً صناعياً قبل عامين، بتطوير الجيل التالي من تقنية الاتصالات التي باتت واحدة من أزهى مجالات النمو الاقتصادي للدولة.

إلغاء نظام الفصل العنصري
عندما نشر صندوق النقد الدولي، في العام 2006، تقييماً لتطور اقتصاد جنوب أفريقيا خلال السنوات العشر الأولى التي أعقبت زوال نظام الفصل العنصري في عام 1994، كان الاستنتاج العام إيجابياً، وكان واضحاً انبهارهم بنجاح عملية الانتقال من نظام الفصل العنصري إلى الديمقراطية، فقد تمكنت حكومة جنوب أفريقيا من تحقيق مكاسب مثيرة للإعجاب في استقرار الاقتصاد، وإرساء أساس متين للنمو الاقتصادي، وتحسين مستويات المعيشة. علاوة على ذلك، تمكنت الدولة من رفع كفاءتها الصناعية من طريق زيادة التعرض للمنافسة من الخارج، ما أسهم في جعل الاقتصاد أكثر تنوعاً، وأقل عرضة لتقلبات أسعار السلع الأساسية.

وفقا لتقرير صدر مؤخراً عن العملاق المصرفي "غولدمان ساكس الاستثماري"، فقد نما الناتج المحلي الإجمالي لجنوب أفريقيا، منذ زوال نظام الفصل العنصري، بواقع ثلاثة أضعاف ليصل إلى 400 مليار دولار، وارتفعت احتياطاتها من النقد الأجنبي من ثلاثة مليارات إلى نحو خمسين مليار دولار. ولعل أبرز النجاحات المتحققة، في غضون عقدين من الحرية، إنشاء طبقة وسطى كبيرة ومتنامية، وتحقيق زيادة حقيقية في الأجور، وتوسيع نطاق الرعاية والخدمات الاجتماعية للمجتمعات المحرومة. فقد تعاظم حجم الطبقة الوسطى ذات الأصول الأفريقية إلى أكثر من الضعف في السنوات الأربع عشرة الأولى من ترسيخ مبادئ الديمقراطية في البلاد، ونما الناتج المحلي الإجمالي للفرد بنسبة 40%، في حين انتقل أكثر من عشرة ملايين جنوب أفريقي، أي بمعدل فرد من أصل خمسة أفراد، من الفئة ذات الدخل المتدني إلى الفئات المتوسطة والمرتفعة الدخل.


سوق مالي متطور
في هذا الصدد، أظهر استطلاع اقتصادي في عام 2010 شمل 14 دولة ناشئة، احتلال جنوب أفريقيا المرتبة الثانية كأكثر سوق مالي متطور، والثانية من حيث تدني الضرائب التجارية كنسبة مئوية من أرباح الشركات. واحتلت البلاد، أيضاً، المرتبة الرابعة في تسهيل عملية الحصول على رأس المال، والرابعة في تكلفة رأس المال، والسادسة من حيث تطور البنية التحتية في مجال النقل، والسابعة من حيث حجم الاستثمار الأجنبي المباشر كنسبة مئوية من الناتج المحلي الإجمالي.

رغم كل هذه الإنجازات المتحققة وتمكن الحكومة من إضافة خمسة ملايين وظيفة خلال السنوات العشرين الماضية، فإن ذلك لم يكن كافياً لخفض المعدل العام للبطالة، إذ لا تزال البطالة الهيكلية وعدم المساواة الاقتصادية مشكلة تؤرق الدولة المكونة من 53 مليون نسمة. وحسب الإحصاءات الرسمية الأخيرة، يعمل أكثر من 14 مليون فرد في وظائف دائمة، مقابل 7 ملايين يُعتبرون في عداد العاطلين عن العمل. في الواقع، فإن نحو 40% من سكان جنوب أفريقيا يقعون ضمن الفئة العمرية دون سن الـ 35، وهي الفئة التي تكون فيها البطالة في أعلى مستوياتها، وبخاصة بين الأفراد السود، حيث نشأت غالبية هؤلاء الشباب في ظل نظام الفصل العنصري، وباتوا غير صالحين للعمل بسبب نسبة الأمية المرتفعة وقلّة المهارات.
في حين لا يزال الملايين من السود يتحلون بالصبر من أجل غدٍ أكثر إشراقاً، إدراكاً منهم أن حياتهم اليوم هي أفضل بكثير ممّا كانت عليه أيام الفصل العنصري البائسة. أمّا بالنسبة للآخرين، الذين لا تربطهم أي ذكريات مع هذا الماضي المؤلم، فقد باتوا في عجلة من أمرهم للمضي قدماً. ذاك أن الحقيقة التي يدركها الجميع، أنه لا يمكن خلق عشرين عاماً أخرى من النمو القوي لجنوب أفريقيا، إلا من خلال تطلع الجانبين، بعزيمة وثبات، نحو مستقبل أفضل وأجمل.
(خبير اقتصادي أردني)
المساهمون