مصطلح اقتصادي للسوريين

01 سبتمبر 2015
لوحة للفنان التونسي حسين مصدق
+ الخط -
يصل الخبر بالتقسيط؛ ثمّة جثث جديدة. يمرّ وقت لا هو بالطويل ولا بالقصير، وقت كافٍ فقط لسبر هوية الجثث عبر فحوص مخبرية بسبب تحلّلها بالكامل وتكدسها بعضها فوق بعض، مع أن لا حاجة، إذ يبدو أن النتيجة معروفة سلفًا: هؤلاء السمر النحيلون هم من الجنوب، وتحديدًا من ذاك البلد الصغير: سورية.
لا تنتهي القصّة تمامًا هنا، بل لعلّها تبدأ، إذ إن الوسائل الإعلامية التي نقلت الخبر، كان عليها أن تختار بين مجموعة من الألفاظ لصوغ الخبر: قتلى أم موتى؟ الأفضل جثث. ثمّ نازحون أم هاربون أم مهاجرون؟. تستبعد الألفاظ التي تشير إلى طرف "ثالث"، فلا تستعمل الألفاظ الآتية: "مهَرّبين" ولا "مهَجرّين" ولا "منَزّحين"، أي تستعمل صيغة الفاعل لا صيغة المفعول به، إذ إن صيغة لغوية مماثلة، تعني أن ثمة من يجب لومه، وهذا غير جائز، لكن لوم الضحية جائزٌ ويجوز، كما يجب ترك الجثث وحدها مع موتها، لا مع شيء آخر خلا "الحزن البادي". أين يبدو هذا الحزن؟ لدى السوريين وحدهم، إذ لا يوجد "أصدقاء سورية"، هذا التعبير السياسي الذي انبثق منذ نيّف وأربع سنوات ثم تلاشى تلقائياً.
لا شيء يداني الألفاظ المستعملة في الإعلام قوّة، إذ هي بمنزلة "الكلمة - المفتاح"، من أجل فهم كيف يُساس الخبر وكيف يكون مؤثّرًا. وبالاستعمال تطورت تلك الألفاظ وغدت علامات ورموزاً حاملة للمعاني الموجّهة.

اقرأ أيضاً: سورية الأصل والمعنى

لا تنتهي قصّة الواحد والسبعين ضحية سورية، وُجدت في شاحنة مركونة على طريق سريع شرق النمسا، هنا أيضًا، إذ وفقًا للخبر "ثمة ثلاثة أشخاص على علاقة بالحادث أوقفوا في المجر" ثلاثة من شأنهم أن يقودوا إلى المهرِّبين. وربّما يستطيع المرء تخيّل أصحاب هذه المهنة الجديدة الرائجة: مهرِّب سوريين.
لمهرِّب السوريين نظراء وأصدقاء "كار" - وفقًا للتعبير الشامي -، يتشاور معهم في شؤون العمل: ثمّة عدد كبير من هؤلاء السمر من أهل الجنوب، الراغبين بشدّة الذهاب إلى الشمال، برًا وبحرًا. يدفع كل واحد منهم مبلغًا وليكن كذا، ويكلّف مبلغًا وليكن كذا، وبطرح المبلغ الأوّل من الثاني نصل إلى الربح الأوّلي، فقد لا يصلون جميعًا، وقد يُفقد جزء منهم، فتنخفض التكلفة ويزداد الربح. معادلة بسيطة: كم دفع الناس من الجنوب؟ وكم كان عددهم؟ وكم وصل منهم إلى الشمال؟، وكم حزْنا من النقود؟
نعم ربّما يجب النظر إلى الأمر من الناحية الاقتصادية، إذ إن عصرنا عصر الأرقام لا البشر، وكذلك هو عصر اجتراح المصطلحات و"الكلمة - المفتاح".
وقد حملت العولمة طائفة كبيرة من المصطلحات الاقتصادية، تفيد واحدة منها لتمثيل حال السوريين، وكيف يفكّرون قبل أن يقرروا النجاة: "الأموال الساخنة". لا ضير ربّما من استعمال مصطلح اقتصادي مفيد لعلّ من شأنه استعادة المعنى وقد شابه الضرّر، كلّ الضرر.
يطلق هذا المصطلح الاقتصادي على تدفق رؤوس الأموال من بلد إلى آخر من أجل ربح قصير الأجل، يكسبه المرء من اختلاف سعر الفائدة بين البلدين. ويرى أهل الأرقام أن هذا التدفق ينتمي لعائلة "المضاربة"، وحركته السريعة، فهو متدفق، تؤدّي إلى عدم استقرار الأسواق.
يفكّر السوري بكسب روح "قصيرة الأجل" بسبب اختلاف "سعر" الحياة، أو تكلفتها، بين سورية وأي مكان آخر، فيتدفّق هو وأبناء جلدته من الجنوب صوب الشمال. وليس للفظين؛ الجنوب والشمال هنا معانٍ قاموسية كما جرت العادة فحسب، بل ثمة معانٍ استعارية ومجازية؛ الجنوب هو سورية والشمال أي مكان غيرها.
ربّما يفيد المصطلح الاقتصادي في التنبيه إلى قصّة، لا يمكن اختصارها باجتهاد الإعلاميين اللغوي الذي يميل إلى صيغة المفعول به، فـ "الأموال الساخنة"، وبسبب انتمائها لـ "عائلة المضاربة"، تجبر أهل الاقتصاد على البحث عن سبل تعطيلها، وعادة ما يلجأون إلى فرض ضرائب لمنع التدفّق.
وكذا يصيرُ سوريًا أيضًا، فأهل أوروبا اجتمعوا من أجل مؤتمر يبحث في "الهجرة"، وسيكون "لطيفًا" لو فكّر المرء بتصوّر "الضريبة" التي ستفرض من أجل الحدّ من هذه الأموال الساخنة، وتخفيف "ضررها". وسيكون "ألطف" التفكير بالربح والكسب من ضريبة مماثلة، وتقدير عدد "المكلّفين بالضريبة" والتفاصيل كلّها، من أجل إعداد دراسة جدوى اقتصادية وفقًا لمعايير العولمة (والاستبداد) التي ترى وتعرف كل شيء، وتراقب وتتجسس على كلّ شيء، وتقيس كل شيء بالأرقام وحدها، لكنها تنتقي وتختار وتصطفي ما يلائمها، فلا معنى لرقم يشير إلى عدد القتلى ولا المهجَّرين مثلًا، إذ ربما أشار الرقم مقترنًا بصفته إلى لفظ لا أحد يرغب باستعماله، لفظ صغير: الضحية.
المساهمون