التنظير مع الإبداع

25 اغسطس 2015
لوحة للفنان المغربي محمد السالمي
+ الخط -
عبد الكريم برشيد من المسرحيين العرب القلائل الذي حاول أن يطرح معادلة نقيضة لتلك القائلة إن التنظير "عملية لاحقة للعملية الإبداعية". فإلى جانب كونه مبدعاً تميّز بنصوصه المسرحية ذات الطابع التجريبي، قدّم تنظيراً لهذا الطابع ونصوصه على شكل بيانات حملت اسم "بيانات المسرح الاحتفالي"، ثم جمع هذه البيانات في كتاب سمّاه "المسرح الاحتفالي"، وتلت ذلك كتب نقدية تحمل سمات التنظير، أهمها: "الكائن والممكن في المسرح الاحتفالي" و"الاحتفالية: مواقف مضادّة" و"الاحتفالية في أفق التسعينات" و"غابة الإشارات".
ويشرح برشيد بإسهاب في سياق الحوار المنشور معه في ملحق الثقافة هذا الأسبوع، كيف وصل إلى هذا النمط من المسرح بما يعفينا من عناء التكرار، إلا في ما يتعلق بقناعته أنه إذا كان "المسرح أبو الفنون" في الحضارات القديمة، فإن الاحتفال على مرّ تاريخ العرب هو أبو الفنون، ومنه خرج الشعر والرقص والغناء والعزف والإنشاد الديني، وهو بهذا المعنى ديوان فنيّ شامل ومتكامل، تخبئ فيه الشعوب والأمم ثقافاتها ولغاتها اللفظية والجسدية المتعددة والمتنوعة.
كما أنه يتعيّن علينا تسجيل قناعة تكوّنت لديه منذ بداياته المسرحية الأولى، مؤدّاها أنه لا يمكنه أن يكتب ويبدع إلا من داخل هذا الديوان الثقافي الكبير، وفي سياق ذلك أشار إلى أنه في مدرسة هذا الاحتفال الشعبي تعلّم كيف يحكي الحكواتيون الشعبيون الحكاية، وكيف يتفاعل الناس معها في الساحات والأسواق العامة، وتعلّم كيف تنعقد جلسات السمر بشكل تلقائي وعفوي، وكيف يتأسّس فعل المحاكاة من خلال تطوّع الموهوبين للتقليد، وكيف يجلس الناس، ويتفاعلون إيجابياً مع اللحظة الاحتفالية الحية. ومن هذه المدرسة خرجت الاحتفالية، أي من العبقرية الشعبية التي أوجدت الراوية العربي، والحكواتي الشامي، والسامر المصري، والفداوي التونسي، والقوّال الجزائري، والحلابقي المغربي، واحتفاليات البحر والغوص في دول الخليج العربي.
تكمن إحدى غايات هذا المسرح الاحتفالي في تقريب هذا الفنّ المشهديّ من ذائقة جمهور المتلقين أو بالعكس، من خلال تجيير أدوات فنيّة من التراث. أمّا المضمون فقصة أخرى يتحدث عنها برشيد في الحوار ذاته، لكنه سبق أن تناولها في مقامات متعدّدة.
فكرة المضمون عنده بسيطة للغاية، وهي أن يكون مرتبطاً بوقته وأن يضبط ساعته على التوقيت الحديث والعصري، وفقاً لما يمكن الاستدلال عليه عبر أعماله المسرحية، وأيضاً في ثنايا كل ما يكتبه.

اقرأ أيضاً: المسرح والسياسة، لمن الكلمة العليا؟

في سنة 2000، قمتُ بأوّل زيارة إلى المغرب وكنت مطّلعاً على المسرح الاحتفالي وذا معرفة شخصية ببرشيد، وتزامنت مع ظهور كتيّب له ضمن سلسلة "كتاب الجيب" التي تصدرها جريدة "الزمن" بعنوان "المؤذنون في مالطة".
وجاء في تظهيره ما يلي: "في هذا الكتاب يطلع اسم الكاتب المسرحي المعروف على قرّائه في صورة مغايرة لما اعتادوا عليه... في هذا الكتاب يشحذ عبد الكريم برشيد قلمه ليخترق عالم الحياة اليومية بتناقضاته وآلامه ومخاضاته العسيرة... ففيه يتطرّق لقضايا النفاق الاجتماعي وتعدّد الأقنعة، والقفز على حبال السياسة، كما يعالج مسائل تتعلق بقناصي المناسبات ومصطادي الفرص، وبدور المقهى في صناعة المواطن، وغيرها من القضايا. كل هذا بأسلوب رشيق وشيّق".
تساءلت وقتها ـ كما قد تتساءلون الآن ـ وما دخل كل هذا باسم الكتاب؟ ولا أخفيكم أيضاً أن الاسم أثار في حينه فضولي لتصفّحه على وجه السرعة.
وأمكنني العثور على جواب عن تساؤلي في أحد مقالاته بعنوان "الأذان خارج المكان والزمان"، الذي يغوص على دلالة المثل المصري القائل "لكل وقت أذان"، وما تعنيه من أن كل شيء كان قولاً أو فعلاً أو موقفاً واختياراً لا بُدّ من أن يكون مرتبطاً بوقته الخاص وخارج ذلك لا يمكن أن يكون إلا فعلاً هلامياً لقيطاً وشبحياً ويكون في حاجة إلى نواته الصلبة والصعبة.
إن الإنسان ـ كما يقول برشيد ـ كائن تاريخي، وهذه الحقيقة تظهر بشكل أوضح في المسرح.
وهو أيضاً وجود اجتماعي ونفسي وذهني وروحي، متحرك ومتجدّد ومتفاعل، وجود يقوم على أساس من الترابط العضوي بمن وبما حوله.
لفتني في الكتاب نفسه أيضاً أنه استهلّ بتوطئتين "ما قبل فاتحة الكتاب" و"فاتحة الكتاب"، وانتهى بـ"خاتمة الكتاب" التي ختمها بالقول: يقول ابن المقفع "حق على العاقل أن يتخذ مرآتين فينظر في إحداهما في مساوئ نفسه فيتصاغر، ويصلح ما استطاع منها، وينظر في الأخرى في محاسن الناس فيحلّيهم بها، يأخذ ما استطاع منها". وما هذا الكتاب في حقيقته إلا مجموعة من المرايا قد تكون ماكرة ولكنها صادقة بكل تأكيد.
أبدع برشيد نصوصاً مسرحية متميّزة وقام بالتنظير لها.
يبقى السؤال: هل ثمة في هذه النصوص ما يتطابق مع التنظير داخل حقل المعاني المستمد من المعادلة التي تناقض تلك الذاهبة إلى أن التنظير "عملية لاحقة للعملية الإبداعية"؟
إنه سؤال يظلّ مفتوحاً للنقد.
المساهمون