"العشاء الأخير": مصر بعد الثورة

11 اغسطس 2015
صورة من العرض المسرحي، موقع مهرجان أفينيون العالمي
+ الخط -
"العشاء الأخير"، مسرحية طبقة الفساد المصرية

إذا ما انتقلنا إلى العرض المصري سنجد أننا بإزاء عمل مغاير كلية، ينتمي إلى مسرح شريحة الحياة التهكمية، وإن كان به شيء من إشكاليات مسرح ما بعد الاستعمار. وقد دار العرض في مسرح ضاحية "فيردن" على بعد خمسة كيلومترات من مدينة أفينيون التاريخية المسوّرة، ومع ذلك كان المسرح مليئًا لآخره بالجمهور، فثمة شغف فرنسي حقيقي بكل ما هو مصري، بل عشق له. ويشبع عرض "العشاء الأخير" هذا الشغف إلى حد ما لأنه يعتمد على تقديم شريحة حية من الواقع المصري المعاصر، وتقديمها للمشاهدين بصورة تحتفي بأسلوبية العرض المسرحي، وتهتم بإيقاعاته وجمالياته البصرية والحركية على السواء. وهي الجماليات التي تتغيا، وقد قدمت لنا شريحة واقعية حية من الواقع المصري، الإجهاز على التوهيم وكسر أي ميل للتماهي معها، فهي شريحة لا تستحق بأي حال من الأحوال التماهي معها، أو مع ما يعشش في داخلها من عناكب وخواء. جماليًا تسعى إلى إرهاف وعي المشاهد بضرورة التفكير في دلالات ما يراه بطريقة عقلية ونقدية، والوقوف على مسافة منه تمكنه من ذلك. لأن تفاصيل حياة تلك الشريحة التي تتجلّى لنا على مائدة العشاء تفاصيل مترعة بالمفارقات التهكمية؛ تثير بتناقضاتها الفجة مزيجًا من السخرية والرثاء. وتكشف عن عزلة هذه الأسرة الغريبة والحقيقية معًا، ليس فقط عن الواقع الذي تعيش فيه، ويمور بالتناقضات الاجتماعية والفكرية على السواء، فثمة إشارات واهنة إلى ما دار في مصر عقب الثورة، ولكن أيضًا عن عزلة أفرادها عن بعضهم البعض. وكأن الحرص على أواصر العلاقات العائلية، الذي يصر عليه الأب في ضرورة أن يتجمع كل أفراد أسرته الكبيرة على العشاء، شارة على خواء تلك الأواصر وفراغها من أي معنى.
فظلال العنوان الدينية، بإحالته إلى "العشاء الأخير" في قصة حياة السيد المسيح وخيانة أحد حوارييه له قبل صياح الديك، تلقي بثقلها على أي تلقٍ للعمل. وتطلب من المشاهد التفكير في الدلالات الكامنة خلف المظهر البادي أمامه، وفيمن سيخون صاحب العشاء، أو بالأحرى فيمن لن يخونه. وهي الظلال التي يعززها استخدام المخرج لعملية تجميد المشهد Freeze وتغيير الإضاءة عند لحظات مفصلية في الحديث الدائر على العشاء. فعلى العكس تمامًا من عشاء السيد المسيح الأخير المترع بالقيم الروحية والوصايا الأخلاقية، الذي واجه بعده مصيره على الصليب، نجد أنفسنا بإزاء عشاء مشغول كلية بالمكاسب المادية، والفجاجات الحسية، واللهاث وراء الفتات الذي قد تتركه الرأسمالية العالمية على موائدها لعملائها في الهوامش. لأن المسرحية وقد تعمّدت أن تخلي الخشبة المسرحية الواسعة من كلّ شيء، إلا من مائدة عشاء طويلة يحيط بها الفراغ/ الخواء، ويتجمع حولها أفراد أسرة أب لا اسم له، يشار له دومًا بـ"الباشا"، جعلت المشهد المسرحي نفسه معادلًا بصريًا لخواء العالم الذي تعيشه هذه الأسرة في عزلتها المعقّمة. وهو التعقيم الذي ينعكس على كلّ شيء، بما في ذلك العشاء التجريدي نفسه الذي تجسده مفردات رمزية أو استعارية: رأس عجل على صينية وقد أخرج لسانه للجمهور، أو ديك معلق في مشبك وكأنه يستعرض ريشه المنتوف، أو جلده المسلوخ.
وتتكون الأسرة إلى جانب الأب غير المسمى والأم الغائبة عمدًا والتي يشار لها دومًا، ولكنها لا تظهر على المسرح أبدًا، ليصبح لغيابها دلالات الحضور المقلوب، من إبن وبنت. أما الإبن فهو "حسن" الذي يقال إنه فنان، برغم افتقاره لأي حساسية فنية أو أي كياسة اجتماعية، وزوجته "فيفي" وابنهما "سيكا" وابنتهما "زوكي". وأما الإبنة الأصغر فهي "مايوش" وزوجها "ميدو" الحريص على أن يبدو أمام أسرة زوجته، وكأنه في طريقه إلى الثراء القريب. وعلاوة على الأسرة هناك صديق للأب يشار له دومًا بوظيفته السابقة "الجنرال"؛ وهناك أيضًا خادمان يقدّمان بإيقاع محسوب ما يفترض أنه العشاء. لكن المهم في المسرحية ليس وليمة العشاء الغائبة، أو الحاضرة حضورًا رمزيًا، وإنما هي تلك الوليمة الأكثر غرابة من أي وليمة حقيقية والتي تتكون من الأحاديث الكاشفة عن طبيعة العلاقات بين أفراد تلك الأسرة من ناحية، وعن طريقة تفكيرها ورؤيتها الغريبة للعالم من ناحية أخرى. فالإبن مهموم باستعراض مهاراته في استخدام موتوسيكله الغالي من ماركة "هارلي ديفيدسون" وما يحققه عليه من سرعات ومغامرات، وتاريخه مع اغتصاب الخادمات حينما كان مراهقًا، من دون أي مراعاة لمشاعر زوجته الحاضرة. أما زوجة الإبن ومعها الإبنة فهما مشغولتان بالتسوّق، وهل هو أفضل في نيويورك أم لندن أم باريس؟ وإن استعرضت لنا زوجة الابن أيضًا مشاكلها مع الخادمات: الأثيوبيات منهن ثم المصريات، بعدما تعذّر الحصول على الفيلبينيات.
وإذا كان الإبن "حسن أبوعلي" غارقًا في فجاجاته، فإن زوج الابنة "ميدو" مشغول بتحسين صورته لدى عائلة زوجته، وتحقيق سلامه الاجتماعي مع أفرادها، أملًا في أن يحقق لنفسه مؤطئ قدم على خريطة علاقات القوى بها، وبالتالي على خريطة الثراء الذي يتوق بشدّة إلى تحقيقه، ولكنه توق يتسم بالتشتت لأنه يضرب خبط عشواء في كل اتجاه. وإذا كان حديث الأبناء يثير الرثاء لانفصاله الغريب عن الواقع على عدة مستويات، فإن حديث الكبار، أي الأب والجنرال، يثير السخرية هو الآخر. فالأب مشغول وقد اشترى سيارة جديدة ببيع سيارته المرسيدس القديمة بأكثر من ربع مليون جنيه؛ والجنرال يؤكّد مكانته في علاقات القوى بالأسرة بتسهيل عملية البيع تلك، وبالحديث مع الأب عن الصراصير، وهم عنده بقية الشعب المصري، وخاصة من شارك منهم في الثورة، وعن المؤامرات التي تستهدف مصر من جميع الجهات. وهو حديث عن الواقع السياسي من منظور ندرك مدى معاداته للثورة التي اندلعت في مصر، ومدى كراهيته لما شكّلته من تهديد لوضع تلك الشريحة الطفيلية من أثرياء الفساد التي يسعى هو الآخر للانتماء إليها.
إننا بإزاء مسرحية تضع لنا شريحة من حياة الطبقة الثرية التي تستأثر بقسم كبير من الثروة المصرية على خشبة المسرح، فنكتشف مدى بلاهتها السياسية والاجتماعية على السواء. ونكتشف مدى غياب أي همّ وطني حقيقي لديها، أو أي رغبة في تنمية البلد والحرص على مستقبلها. وندرك عبر حديث الكبار فيها عن "البلد" وما يحاك لها من مؤامرات، وعن رؤيتها للشعب المصري، الذي حقق في 25 يناير إحدى أنبل الثورات في التاريخ، على أنه مجموعة من "الصراصير" أننا بإزاء عمل فني يؤكد بطريقته المراوغة شرعية الثورة على تلك الطبقة التافهة التي استأثرت بالثروة من دون أي جدارة حقيقية بها.
المساهمون