مثقف أخلاقيّ

02 يونيو 2015
+ الخط -
منذ نحو تسعين عاماً، سكّ المفكر والروائي الفرنسي جوليان بندا (1867- 1956) مصطلح "خيانة المثقفين" من أجل تزكية "السلطة الأخلاقية" للكتابة.
واعتبر بندا من ضمن أمور أخرى، أن "المثقف الحقيقي" لا يتمتع بموهبة استثنائية فحسب، بل أيضاً وربما أساساً بحسّ أخلاقي فذّ، ويشكّل ضميراً للبشرية.
مثل هذا المثقف كان المؤرخ هانس كوهين (1891- 1971)، أوّل سكرتير لرابطة "بريت شالوم" (تحالف السلام)، التي نشطت في فلسطين داخل الحركة الصهيونية وتبنّت المقاربة ثنائية القومية. لكنه استقال من منصبه سنة 1930 لأسباب ضميرية، إذ رأى أن احتمالات جَسر الفجوة بين مواقفه وبين وجهة النظر الصهيونية الرسمية معدومة، وأن هذه الرابطة ساومت في موضوعات لا تجوز المساومة فيها إطلاقاً. وفي سنة 1933 تلقّى دعوة لتدريس التاريخ الحديث في "سميث كوليج" في ولاية مساتشوستس الأميركية فلبّاهـا. وفي ربيع 1934 غادر فلسطين برفقة زوجته وابنهما ولم يعد إليها بتاتاً.
كان كوهين من أشدّ أنصار المقاربة ثنائية القومية في فترة تأسيس "بريت شالوم"، لكن عندما شعر أن هذه المقاربة غير قابلة للتطبيق في ظروف فلسطين المستجدّة، تبنّى مقاربة أخرى تدعو إلى الاعتراف باليهود كأقلية في فلسطين. وبرسم هذه المقاربة صاغ، سنة 1929، مشروع دستور للرابطة. غير أن مقاربته هذه، لم تثر اهتمام أحد في حينه، ولذا فإن طلاقه من الحركة الصهيونية بات سريعاً. وتدلّ يومياته والرسائل، التي كان يرسلها إلى أصدقائه، على أن خطوة ترك صفوف الحركة الصهيونية كانت ناجمة، أكثر من أي شيء آخر، عن إدراكه أن طريق الصهيونية غير صحيحة وغير أخلاقية.

اقرأ أيضاً: من الأوّل، الوعي المزدوج

وكانت ثورة البراق (1929)، وخصوصاً ردة الفعل من جانب الحركة الصهيونية وبريطانيا عليها، هي السبب المباشر وراء استقالة كوهين من الحركة الصهيونية. غير أن خلفية هذه الاستقالة كانت آخذة في التبلور قبل ذلك التاريخ. وهي خلفية مرتبطة باعتقاده أن تطبيق الصهيونية لا بُدّ من أن يكون مقروناً بممارسات مرفوضة من الناحية الأخلاقية.
وتشير أكثر من دراسة حول كوهين إلى أن 1928 كانت السنة التي حسمت اختياره هذا نهائياً، وذلك بسبب حادثتين بارزتين وقعتا خلاله:
الأولى، احتدام الجدل بينه وبين رئيس "بريت شالوم"، بشأن ضرورة تحويل الرابطة إلى هيئة سياسية فاعلة في الخريطة الحزبية الصهيونية، وقد رأى كوهين أن عدم تحويلها إلى هيئة ذات وزن من شأنه أن يحملها مسؤولية أخلاقية شديدة الوطأة.
الثانية، في 8 حزيران/ يونيو 1928 لقي عابرا سبيل عربيان مصرعهما بالقرب من بيت كوهين، على يد متطرفين يهود، لكن أحد جيرانه حاول إقناعه بأن يدلي بشهادة زور فحواها أن الذين ارتكبوا الجريمة هم العرب. وحول هذه الحادثة كتب كوهين في رسالة بعث بها إلى الصحافي روبرت ويلتش: "لقد تدهورنا إلى حضيض مريع بسبب تطرفنا القومي ... يمكن القول إن 95 بالمئة من أبناء الييشوف اليهودي يؤيدون، في الوقت الحالي، جرائم قتل كهذه ... لقد قُتل أناس أبرياء سُذّج تصادف وجودهم عرضاً في ذلك المكان. حتى الألمان لم يفعلوا ذلك. وفي حين أن المثقفين الفرنسيين أقاموا الدنيا جراء قضية درايفوس، فإن جريمة القتل هنا لا تهمّ أحداً على الإطلاق. وكما حدث في الحرب العالمية (الأولى) فإن أي بربرية، كما هذه الجريمة البربرية، تُعرض باعتبارها نتيجة حتمية. وإنني أستشفّ المشكلة العملية الكامنة في موقف كهذا، وذلك أبعد من المشكلة الأخلاقية. إلى أين سيقودنا هذا كلّه؟. يدعي بن تسفي (يقصد إسحاق بن تسفي الذي أصبح ثاني رئيس لدولة إسرائيل) أن هذا العمل سيردع العرب، لكنني أدعي العكس تماماً .. لقد انفلتت هنا مشاعر عنصرية من الصعب توصيفها".

اقرأ أيضاً: عن تحدّيات القصة وكُتّابها راهناً

في واقع الأمر فإن كوهين كان يقوم بجولة في أوروبا عندما اندلعت ثورة البُراق، وقد تعقب ما حدث خلالها وهو في الخارج، وكتب عن ذلك في يومياته. وفي هذا الصدد عدّ أن المسؤولية عن اندلاع الثورة تقع على عاتق الحركة الصهيونية، لأنها أحجمت عن انتهاج سياسة أخرى إزاء السكان العرب. وحثّ كوهين زملاءه على التحرّك الفوري من أجل إحداث تغيير في السياسة الصهيونية يحول دون خوض حرب طاحنة مع الحركة القومية العربية. وفي إحدى رسائله من تلك الفترة كتب:
"إن أخشى ما أخشاه هو أن تسير الصهيونية في الطريق الخطأ، التي تمضي فيها الحكومات كلها... أخشى أن يكون أصدقاؤنا غير مدركين للوضع الحقيقيّ، أي لواقع أننا نواجه ثورة قومية لأمة مقهورة. إن الجماهير العربية الشعبية تحارب من أجل الأمة، أو من أجل الفكرة والمثال القوميين، مثل شعبنا تماماً، أو مثل الشين فين (الجيش الجمهوري الإيرلندي) في حينه. وقد بقي أمامنا الآن طريقان: إمّا قمع العرب وإخضاعهم بواسطة استعمال القوّة المفرطة، القوة العسكرية الإمبريالية أو القوّة الكولونيالية من النوع الأسوأ، وإمّا أن تكشف الصهيونية، أخيراً، عن وجهتها الحقيقية، وفحواها أنها ليست معنية لا بإقامة دولة ولا بجعل اليهود أكثرية ولا بتحقيق نفوذ سياسي... يتعين علينا جميعاً أن نبذل كلّ ما في وسعنا كي نجد مسارات تربطنا بالعرب، وكي نغير ملامح الصهيونية كلياً إلى ناحية مناصرة السلام ومعاداة الإمبريالية واعتماد الديمقراطية، ففي ذلك كله تكمن الدلالة الحقيقية للروح اليهودية".
غير أن الأمل الذي راود كوهين بـ "تصحيح طريق الصهيونية" سرعان ما تلاشى، وغداة توجيهه الرسالة السالفة، كتب في يومياته أن سياسة الإدارة الصهيونية أسوأ كثيراً مما كان يتوقع ذات مرّة، ولذا "لا يجوز لنا البقاء هناك، ولا يجوز لنا أن نكون جزءً من هذا المشروع، وبناء عليه يجب أن نستقيل ببطء، أن نصمت وأن نقول وداعاً". وبعد هذه الملاحظة بيوم واحد كتب أيضاً أن قرار ترك صفوف الصهيونية يتعزّز لديه أكثر فأكثر، ولم يعد في إمكانه تحمّل المسؤولية عن ممارساتها، وهذا يعني عدم قدرته على تحمل المسؤولية عن الجريمـة.
وفي 18 أيلول /سبتمبر 1929 كتب في رسالة أخرى: "لم يعد في إمكاني أن أبقى هناك أكثر، لأن ما يتطوّر يتناقض مع أهدافي، كما أن نشاطي في الرابطة يجري استغلاله من أجل التستر وتشجيع ما لا يجوز التستر عليه أو تشجيعه".
خلاصة القول إن موقف هانس كوهين إزاء الصهيونية، الذي أدّى إلى توصله لاستنتاج قاطع يفيد بعدم صحة طريقها فيما يتعلق بـ "المسألة العربية"، انطلق أساساً من رؤية التناقض الفاضح بين ممارساتها وبين المقاربة الأخلاقية، وهي الرؤية نفسها التي انسحبت على موقفه إزاء رابطة "بريت شالوم" أيضاً.
واخترت استعادة تجربة هذا المثقف بالتزامن مع مرور ذكرى حرب حزيران / يونيو 1967 لأن فيها ما يعيد الجدل حول صراعنا مع الصهيونية إلى أصوله الحقيقية التي لم تبدأ بوقائع تلك الحرب.
المساهمون