ملاحظتـان عن "مسألة فلسطين" والسلام"

14 ديسمبر 2015
المسجد الأقصى محاصرا(Getty)
+ الخط -
سبق للباحث والمؤرخ هنري لورنس في أكثر من مقام أن شرح سبب اختياره أن يتحدّث عن "مسألة فلسطين"، قائلًا إنه يلتزم منهجًا في الكتابة التاريخية يسعى باستمرار إلى توسيع الموضوع، كي يدرأ عن نفسه الخضوع إلى الضغوط الداخلية والعذابات والعواطف التي يثيرها الصراع الراهن المتعلق بهذه المسألة.
ووفقًا لهذا المنطق تحدّث لورنس عن "مسألة فلسطين" لا عن تاريخ فلسطين أو عن تاريخ الصراع العربي - الإسرائيلي. وأتاح توسيع كهذا له، إمكان دمج تعددية الأطراف الفاعلة المحلية والإقليمية أو الدولية وغيرها، وكذلك الصراعات على الأرض.
وقد يكون تعقيد "مسألة فلسطين" من وجهة نظره عويصًا أكثر من عقدة الصراع حول الأرض، ذلك لأن المرجعية التاريخية لفلسطين هي، أيضًا، في مرجعية المقدّس والديانات التوحيدية الثلاث كقوله، وفي الوقت نفسه لدينا كذلك تاريخ تعددي أكثر راهنية ربما، من بينه تاريخ المحرقة النازية مع ما رافقه من إبادة ليهود أوروبا الشرقية، وأيضًا تاريخ الاستعمار والهيمنة الأوروبية من قبل الأنظمة الإمبريالية.
ولا بُدّ من أن يُضاف إلى ذلك موضوع إعادة تقييم موقف الاتحاد السوفييتي السابق من المسألة الفلسطينية خلال السنوات 1947- 1952، مع ما يستلزمه ذلك من التوقف عند أسئلة قليلاً ما تطرح أو يجري تداولها من قبيل: لماذا لم تضع هذه الدولة العظمى ثقلها عندما كان بإمكانها ذلك في دعم حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني؟ ولماذا شكّل موقفها في تلك الفترة أحد عوامل إضعاف الشعب الفلسطيني؟.
وهي أسئلة بدأ البحث التاريخي الفلسطيني يطرحها في الفترة الأخيرة، في إطار إخضاع ما يسمى بـ"عملية التسوية السياسية" للصراع إلى محاكمة تاريخية متأنية ومدروسة، وفي الوقت عينه صارمة وحازمة.
عندما يجري تقويم مساهمة لورنس المعرفية عمومًا، يُشار في المعتاد إلى أنه يبحث في التاريخ ضمن إطار تمسكه بمبادئ حقوق الإنسان وحقوق الشعوب، لافتًا إلى أن الغرب الإمبريالي خان هذه المبادئ في تعامله مع "المسألة اليهودية" في الغرب كما في تعامله مع "مسألة فلسطين" في الشرق. ولا يضنّ بسهام نقده لدور مختلف الدول العظمى، وبينها فرنسا، في دعم المشروع الصهيوني.
وبما أننا الآن بصدد الجزء الخامس من عمل لورنس البانورامي "مسألة فلسطين"، فليس من دون دلالة أن هذا الجزء الذي يغطي الفترة التاريخية الممتدة بين السنوات 1982- 2001 يحمل اسم "السلام المستحيل"، نظرًا إلى أن كلمة "سلام" في سياق الصراع لم تعد برأيه تعني شيئًا. ولا يثير أحد "حل الدولتين" كحل بديل، ولن تسمح إسرائيل بقيام دولة فلسطينية، ويعرف الفلسطينيون أكثر من غيرهم هذه الحقيقة.
وفي ظنّ كثيرين من النُخب الفكرية والسياسية الفلسطينية أنه حتى كلمة "تسوية" لم تعد تعني شيئًا، ولا سيما في ظلّ "ترسيخ" ازدواجية المرجعية لأي مفاوضات حول تسوية. فمن جهة أولى، استغلقت إسرائيل بعد سلسلة من التحولات الأكثر كولونيالية وعنصرية داخل المجتمع
الإسرائيلي وفي إطار حركته السياسية ومؤسساته الأمنية والاستيطانية والدينية، على المرجعية الدينية لتسويغ السيطرة على الأرض الفلسطينية واستيطانها، ولتبرير واعتماد "الحق التاريخي" المُطلق لليهود في أرض فلسطين التاريخية، وهي مرجعية مدّعمة بالقوة العسكرية وبوقائع كولونيالية تُضاف في الأرض على مدار الساعة، وفي مقابل ذلك ما انفكّ المفاوض الفلسطيني يتبنى الشرعية الدولية المدعمة بمئات قرارات مجلس الأمن الدولي والجمعية العامة للأمم المتحدة الصادرة منذ سنة 1967 وحتى الآن.
ومؤخرًا أشار لورنس إلى أن بنيامين نتنياهو يستخدم منذ نحو عقدين "خطابًا مروّعًا" يزعم أن اليهود على حافة الإبادة، وأن القوة التي في حيازة "الدولة اليهودية" هي وحدها الكفيلة بمنع ذلك. وبالتوازي مع هذا يتجاهل سياق المحرقة في إضفاء "شرعية دولية" على هذه الدولة مشدّدًا على أن شرعيتها الوحيدة مستمدّة بشكل حصري وغير قابل للتأويل من "الرابط التاريخي بين الشعب اليهودي وأرض إسرائيل (فلسطين) المستمر منذ أكثر من 3500 سنة".
بالمفهوم العميق، يرى نتنياهو نفسه في مواجهة الهبّة الشعبية الفلسطينية الحالية ليس زعيم "الشعب اليهودي" فقط بل أيضًا "الطليعيّ" الذي يقف أمام المعسكر الدولي كله في الحرب ضد قوى الشر والتي لا يجوز أن تنتهي إلا باستسلام الطرف الآخر من دون قيد أو شرط.
وبقدر ما إن هذه الرؤية تنطوي على تعظيم قوة الآخر فإنها تتطلع إلى تعظيم ذاتي لزعيم لديه "بُعد نظر" ويسعى إلى إنقاذ العالم بأسره.
إقرأ أيضا: عن القدس بعد تقادم الزمان
المساهمون