عشية نهائي كأس العالم 2022، اتجه بعض المحللين نحو تقييم الجوانب الفنية للبطولة الأكثر إثارة للجدل في تاريخ الكرة، لمجرد إجرائها في بلد عربي ومسلم، في فصل الشتاء، وفي مدينة واحدة. تعرضت استضافة قطر للمونديال لكل أشكال التشويش والتشويه والأكاذيب والإشاعات والافتراءات التي سادت لسنوات، قبل أن يصطدم العالم بواقع استثنائي مختلف، بفضل حسن الاستضافة وجودة التنظيم التي فاقت كل التوقعات في الملاعب وخارجها.
وأفسحت هذه المميزات المجال لمختلف القراءات والتحليلات والتبريرات بشأن خروج ألمانيا وبلجيكا من الدور الأول، وإقصاء البرازيل والبرتغال وإنكلترا في ربع النهائي، وتألق المغرب بوصوله إلى نصف النهائي، وكيف وصل ميسي والأرجنتين إلى النهائي، رغم بدايته المتعثرة أمام السعودية، برفقة حامل اللقب، المنتخب الفرنسي، رغم غياب بوغبا، كونتي وبنزيمة.
أغلب التحاليل ذهبت إلى القول بأن عصر الاستحواذ على الكرة انتهى لمصلحة الواقعية والفعالية والتنظيم الدفاعي المحكم، فخرجت بلجيكا وألمانيا مبكراً، وخرجت إسبانيا والبرازيل والبرتغال في الأدوار الإقصائية، فيما بلغت الأدوار الإقصائية المنتخبات التي تملك أفضل حراس مرمى، والتي لم تتلقَّ أهدافاً كثيرة بفضل منظومتها الدفاعية القوية، بما في ذلك المغرب الذي لعب على الطريقة الإيطالية.
وتلك التي تملك في صفوفها ميسي ومبابي، الأفضل في العالم حالياً، والتي بلغت بفضلهما الأرجنتين وفرنسا النهائي بأهدافهما الخمسة ومهارتهما التي سمحت لهما بصناعة الفارق في أصعب الظروف، وفي بطولة لم تكشف عن نجوم جدد يمكنها أن تنسينا ميسي، رونالدو، نيمار ولوكا مودريتش الذين خطفوا الأضواء مجدداً رغم تقدمهم في السن.
احتضان قطر للبطولة كان له مفعوله السلبي على النفوس والمعنويات، وخاصة أن الكثير من المنتخبات الأوروبية كانت تتوقع أجواءً مشحونة، وظروفاً قاسية، وتنظيماً سيئاً، كذلك إن إجراءها في منتصف الموسم الكروي كان له تأثير سلبي في المردود، بعد أن تعود الجميع البطولات المجمعة في فصل الصيف عند انتهاء الموسم الكروي.
كذلك إن غياب جماهيرها بشكل مكثف في فصل يصعب فيه الحصول على الإجازات للموظفين والطلبة، كان عاملاً مؤثراً في مردود بعض المنتخبات التي وجدت نفسها أمام جماهير وأجواء غير معتادة في بطولات سابقة يغلب عليها الحضور العربي الذي كان استثنائياً وتاريخياً، لم يسبق له مثيل في تاريخ نهائيات كأس العالم.
ما فعله المغرب كان استثناءً ومعجزة كبيرة اجتمعت لأجل تحقيقها عدة عوامل مرتبطة بالأجواء التي كانت ملائمة في بلد عربي بحضور جماهيري قارب الأربعين ألف مشجع، جعل اللاعبين يشعرون وكأنهم يلعبون البطولة في بلدهم، ما سهل لهم مهمة التركيز على اللعب بتلك المنظومة الدفاعية الفعالة التي رسمها مدرب محترم، والروح العالية التي تحلى بها لاعبون أخرجوا بلجيكا في الدور الأول، ثم إسبانيا في ثمن النهائي بركلات الترجيح في مباراة بطولية، ثم البرتغال في الوقت الرسمي قبل أن ينال منهم الإرهاق والإصابات أمام بطل العالم الذي صنع الفارق بخبرة لاعبيه وقدرتهم على تحمّل ضغوطات المواعيد الكبرى، رغم أن المنتخب المغربي لعب أحسن مباراة له في البطولة من ناحية صناعة اللعب والفرص.
أما بلوغ فرنسا النهائي للمرة الثانية على التوالي، والرابعة منذ نكسة الخروج أمام بلغاريا من سباق التأهل إلى مونديال الولايات المتحدة سنة 1994، فقد كان تحصيل حاصل منطقياً لسياسة كروية طويلة المدى استثمرت في الفشل لتصنع منه نجاحاً مستمراً بفضل الاهتمام بالتكوين الذي صنع أجيالاً فازت بكأس العالم 1998.
وبلغت فرنسا نهائي سنة 2006، ثم توجت بمونديال 2018، وها هي تصل إلى نهائي 2022، في مواجهة منتخب أرجنتيني كان أحد المرشحين للتتويج بالبطولة، لأنه يملك ميسي الذي يلعب آخر مونديال في مشواره، بحثاً عن اللقب الذي ينقص سجله لكي يصبح رسمياً الأفضل في بداية القرن الحادي والعشرين، ويُكرس فكرة النجم القادر على صناعة الفارق مهما تغيرت المنظومات الكروية وتعددت وتجددت أنماط اللعب وأساليبه، لأن الفارق غداً سيصنعه ميسي أو نيمار.