كلنا صار يعرف أن كرة القدم الحديثة بالخصوص لم تعد مجرد لعبة تتقاذفها الأرجل، بل تحوّلت إلى سياسة وتجارة ومال واقتصاد، وعلم وثقافة وحضارة، ترفع المعنويات مثلما فعل المنظمون لحفل افتتاح مونديال قطر، وتُحبطها مثلما فعل لاعبو المنتخب القطري في مباراتهم الأولى أمام الإكوادور بأدائهم التعيس، مما يؤكد مجدداً أهمية الكرة في حياة الشعوب والأمم، ودورها في صناعة السعادة أو التعاسة، وتحقيق التنمية المستدامة، أو تكريس التخلف عن الركب.
وهنا لا أقصد الكرة التي نمارسها في عالمنا الثالث، والتي تزيد من الأحقاد بسبب العنف والتعصب الذي تخلفه في الأوساط الجماهيرية والإعلامية، وحتى السياسية التي تعتقد بأن الكرة مجرد لهو يمكن استغلالها لإلهاء الناس عن القضايا المهمة والمصيرية.
المنظمون لحفل الافتتاح أكدوا قيمة الكرة، من خلال الإبداع الذي رسموه فوق ميدان استاد البيت وفي مدرجاته، وكل الأثر الذي تركوه في عقول وقلوب المشاهدين، خاصة أولئك الذين كانوا يتوقعون مشاهدة الجمال والأحصنة والرمال، فاكتشفوا جمال الألوان والألحان، والصور واللوحات الفنية التي جمعت بين الأصالة والحداثة، والقيم الإنسانية النبيلة، التي صدرت صوراً جميلة عن قطر، التي تعرف كيف تحلم وتعمل وتتحدى العالم كله، وتجعل من الكرة أكثر من لعبة، ومن تنظيم كأس العالم وسيلة لبناء البلد، وتحقيق التنمية المستدامة، التي تخلف أثراً معنوياً ومادياً لا مثيل له. لذلك أطلقوا على لجنة تنظيم المونديال تسمية "لجنة المشاريع والإرث"، التي لن تنتهي مهمتها بانتهاء فعاليات البطولة، بل ستستمر في مهامها للحفاظ على المكاسب وصيانتها وتطويرها.
لاعبو المنتخب القطري من جهتهم لم يكونوا في مستوى حفل الافتتاح، واعتقدوا بأن الكرة مجرد لعبة فيها فائز وخاسر. لذلك لم يبدُ عليهم نفس الإصرار والعزيمة والروح والإرادة في صناعة التاريخ كروياً وتحقيق أول فوز في أول مشاركة بالنهائيات، جاءت بفضل قادة قطر الذين جعلوا من حُلم تنظيم المونديال واقعاً، ووفروا كل الإمكانيات لمنتخب بلادهم حتى يفوز بكأس الخليج، ثم كأس آسيا، ويكون في أفضل أحواله لمجابهة تحديات المشاركة في المونديال بوجه يليق ببلد تحدى العالم بأسره للارتقاء إلى المكانة التي يحتلها اليوم بين الأمم في العديد من المجالات وليس في مجال الكرة، التي كانت بالنسبة إليه وسيلة وغاية في نفس الوقت لبلوغ مراتب متقدمة بين الأمم.
المعارضون لاحتضان قطر لمونديال 2022، كانوا يدركون أنّ قطر لا تريد فقط تنظيم كأس العالم، بل تريد رفع تحديات أخرى سياسية واقتصادية واجتماعية وفكرية وثقافية. لذلك أعلنوا عليها الحرب منذ 2010، باستعمال كل الأسلحة السياسية والإعلامية، بما في ذلك سلاح الكذب والافتراء وحملات التعتيم والتشويه والتشويش، لكن قطر ردت بأخلاق شعبها وقادتها، وبالعمل الميداني الذي مكّنها من تشييد ثمانية ملاعب جديدة، وميناء ومطار ومترو وطرق ومنشآت، ومنظومات صحية وتربوية وإعلامية عالية الجودة، مكنّت الأجيال الصاعدة من تجسيد أحلام الجيل، الذي فكر وقرر في تسعينيات القرن الماضي أن يجعل من البلد الصغير كبيراً بإنجازاته وتحدياته.
قطر صغيرة الحجم وقليلة السكان التي لم يكن يعرفها سوى جيرانها قبل تسعينيات القرن الماضي، أكدت أنّ كرة القدم ليست مجرد لعبة عندما استثمرت فيها بتسويقها في الوطن العربي، من خلال قناة الجزيرة الرياضية، ثم قنوات "بي إن سبورتس"، واستثمرت فيها باحتضان أكبر الأحداث الكروية الإقليمية والدولية، ما سمح لها بإعادة تأهيل مرافقها الرياضية، وإنجاز مرافق جديدة، وأهّلها لكي تتجرأ وتتقدم بملف احتضان كأس العالم في 2010 أمام أستراليا، كوريا، إنكلترا وأميركا، وتفوز بذلك، ثم تنطلق في عملية بناء المرافق والمنشآت، وبناء البلد على ظهر المونديال، رغم التكلفة المالية الكبيرة للعملية، وكل الحملات التي تعرضت لها قطر، ليس بسبب كرة القدم، لكن بسبب أهميتها وتأثيراتها ومخلفاتها.