ينشر موقع "العربي الجديد" حلقات مترجمة من كتاب "أريغو ساكي.. كالتشيو توتالي"، تتناول حياة أسطورة التدريب، والذي لم يلعب الكرة بشكل احترافي خلال مسيرته، ونجح في قيادة العديد من الفرق إلى القمة في فترة الثمانينيات، في ما يلي الحلقة التاسعة:
لم يكد يمر وقت طويل على فوزنا بلقب الدوري حتى توجهنا إلى مانشستر الذي كان يحتفل بمرور 110 أعوام على تأسيس النادي. وكان قد احتل في الموسم السابق المركز الثاني خلف ليفربول.
كان برلسكوني قد قرر تنظيم وديتين للذهاب بالفريق بصورة فورية لأوروبا. فزنا على مانشستر يونايتد بثلاثة أهداف لاثنين. سيطرنا على المباراة وأظهرنا شخصية خارقة. تلقينا الإشادة والثناء من النادي الإنكليزي صاحب الروح الرياضية العالية الذي يعترف بأفضلية منافسيه طالما أثبتوا هذا داخل الملعب.
بعدها واجهنا ريال مدريد في سان سيرو. كانت فترة هامة للتجارب. لم تكن وديات في نظري لأن المواجهات كانت قوية ومليئة بالتوتر والرغبة في الفوز. هذا الأمر يسري على تلك المواجهات التي واجهنا فيها فرقا كبيرة أو أخرى صغيرة.
ريكارد
لنتحدث عن فرانك ريكارد يجب أن نتحدث عن كلاوديو بورغي. كان برلسكوني مغرما بهذا اللاعب منذ كأس الإنتركونتننتال عام 1985 بين يوفنتوس وأرخنتينوس جونيورز. كان بورغي يلعب في النادي الأرجنتيني كوسط مدافع. قدراته الجسمانية كانت كبيرة ولكنه لم يكن وفيا للعب الجماعي.
كان برلسكوني أقدم على ضمه في "مزاد" مع يوفنتوس. أثناء تدريباته معنا أتذكر أن فينشينزو بينكوليني قال لي "أريغو.. حينما أركض لا يقدر على اللحاق بي". لم يكن بورغي يحب الركض أو الحفاظ على الإيقاع أثناء التدريبات. كان يقول "لماذا أركض عدة كيلومترات والملعب به 100 متر فقط". لم تكن علاقته جيدة أيضا ببقية اللاعبين لدرجة أنه تشاجر مع أنشيلوتي وفيرديس. كان كسولا. لم أكن أرغب في وجوده بفريقي.
كان فرانك ريكارد رحل عن أياكس نحو سبورتنغ لشبونة الذي أعاره لاحقا لريال ساراغوسا. كنت أشاهد مباريات المنتخب الهولندي لمتابعة فان باستن ولفت ريكارد انتباهي. أعجبت به. في تلك الفترة كانت لدي فكرة وضع لاعب وسط دفاعي بجانب باريزي في قلب الدفاع لأنني كنت أرغب في أن يبدأ بناء الهجمة من الخلف. فرانك كان جيدا في الرأسيات وسيعوض نقصا موجودا لدى باريزي.
حينما جاء ريكارد لدينا قال لي "ولكن أنت لديك لاعب في نفس مركزي". كان يقصد أنشيلوتي. أجبته "أنت محق ولكن اختياري لم يقع عليك لتلعب في وسط الملعب، بل في الدفاع كما كنت تلعب في هولندا". حصلنا على ريكارد وأعرنا بورغي في النهاية لكومو.
الأمور تبدو سهلة حينما تقولها هكذا، ولكن هذه كانت المرة الوحيدة التي حدثت فيها مشكلة كبيرة بيني وبرلسكوني بسبب لاعب. كان يرغب في تواجد بورغي بالفريق لدرجة أنني هددت بالاستقالة حال ظل مصرا على رأيه.
لم تكن مسألة ضم ريكارد سهلة أيضا، ففي اللحظة التي تمكن فيها غالياني من توقيع العقود وأثناء تحية مسؤولي سبورتنغ لشبونة اقتحمت بعض الجماهير الغاضبة المكتب واعتدت على عدد من مسؤولي النادي البرتغالي. اختبأ غالياني في دورة المياه وانتظر تقريبا ثلاث أو أربع ساعات هناك حتى تهدأ الأمور. كان أول ما فعله بعد "الهروب" هو الاتصال ببرلسكوني وإطلاعه على الأمر. ربما كان هذا ما جعله يعرف أهمية ريكارد.
البداية
في ذلك الموسم 1988-1989 كنا مستعدين للتتويج بكأس أوروبا. كان هدفنا الأول هو الفوز به بعد كل تلك السنوات لنذهب بالكرة الإيطالية للقمة. كان برلسكوني يدرك أنه لكي يصل للسمعة العالمية التي يحلم بها من أجل ميلان فإن الفريق يجب أن يتسيد أوروبا.
كان برلسكوني في تلك الفترة بركانا للأفكار. على سبيل المثال جهز بطولة أوروبية منظمة من قبل الاتحادات الوطنية الكبرى كانت تمثل تهديدا لـ(يويفا) وكأس أوروبا. لم يرق هذا الأمر كثيرا لـ(يويفا) وربما لهذا السبب واجهنا أكثر من عقبة في طريقة نحو النهائي، لكن يجب القول إن دوري الأبطال كما نعرفه اليوم بمرحلة المجموعات وكل هذا يشابه كثيرا ما كان ينويه برلسكوني منذ عدة سنوات.
حينها كانت كل المواجهات مباشرة بنظام الذهاب والإياب. إما تستمر وإما تخرج. كل ما كان يلزم هو السقوط ربما في مباراة واحدة لتعود لمنزلك. كان يجب أن تكون في قمة مستواك. لهذا السبب ضحينا بعدد من النقاط والمباريات في الدوري. هدفنا الأساسي كان كأس أوروبا.
قبل بداية هذا الموسم كنت تحولت من "من أريغو هذا؟" إلى "رسول فوسينانو". هكذا أسمتني الصحف. فزنا في البداية على فيتوشا صوفيا البلغاري وتمكننا من السيطرة عليه في المباراتين. لعبنا مباراة الذهاب بأقصى ما لدينا وفزنا بهدفي فيرديس وخوليت، وتمكنّا في الإياب أيضا من تحقيق انتصار عريض بخمسة أهداف لاثنين. سجل فان باستن أربعة أهداف من ضمنها مقصيّة. الحقيقة أنه سجل بكل الطرق الممكنة. في ذلك المساء كانت بداية ولادة أسطورة "بجعة أوتريخت"، كما أطلقوا عليه بعدها.
جحيم بلغراد
كان يجب علينا في الدور الثاني مواجهة فريق رد ستار بلغراد بكل خشونته وقوته. كانت مباراة الذهاب على ملعب سان سيرو. واجه ميلان مشكلة كبيرة في تقديم لعبه ضد فريق بمثل صفات النجم الأحمر. انتهت المباراة بهدف لمثله حيث سجل للفريق الصربي دراجان ستويشكوفيتش بينما أحرز فيرديس هدفنا بعد تمريرة متقنة من فان باستن.
الأمور كانت صعبة قبل مباراة العودة. كنا سنلعب في جحيم بلغراد في مواجهة قد يكلفك خطأ واحد فيها الكثير. سألت الفتية عما يدور في ذهنهم، وأجاب فان باستن بقوله إنه يعتقد أننا تعرضنا للإقصاء بالفعل. كانت مباراة العودة أشبه بكابوس. خيم ضباب كثيف على الملعب. لم أكن أرى شيئا من مقاعد الإدارة الفنية. وفجأة سمعت صراخ الجماهير، لكن لم أدرك ما الذي حدث. كان الضباب تحول إلى شبح مزعج يصعب على نظري اختراقه. نهضت من على مقعدي لأحتج. لا بد أنه كان هدفا.
كنا نخسر بهدف نظيف حينما قرر الحكم في الدقيقة 12 من الشوط الثاني إلغاء المباراة بسبب الضباب. هذا الضباب القادم من نهاية العالم أنقذنا. كان اللعب في مثل هذه الظروف جنونا. لم يكن يمكنك رؤية ما هو أبعد من أنفك بـ50 سم.
حينما هبطت لغرفة الملابس وجدت أن فيرديس كان قد استحم بالفعل فسألته مندهشا "ما الذي تفعله هنا؟" فأجابني بكل بساطة "لقد تعرضت للطرد!". كان يجب أن تلعب المباراة في اليوم التالي في الواحدة ظهرا في نفس الاستاد من دون احتساب الهدف الذي سجل في المباراة الملغاة.
كان الملعب فتح أبوابه لإدخال أكبر قدر ممكن من الجماهير. وصل غالياني قلقا لغرفة الملابس وقال "يوجد أكثر من 110 آلاف شخص. لا تشعروا بخوف". ولكن هو نفسه كان مرعوبا. الأمر كان أشبه بحلبة قتال رومانية.
كانت الأجواء في قمة التوتر والعنف في الملعب. كان يمكنك أن تستنشق في الهواء رائحة حرب البوسنة. كنا سمعنا صباحا أثناء التدريبات أصوات طلقات الرصاص والمدافع. كان رئيس الجماهير هو المقدم أركان الذي اشتهر للأسف أثناء حرب البوسنة بالمجازر التي ارتكبها.
لم يكن هناك ضباب هذه المرة ومن يخسر سيودع حقا البطولة. قدمنا مباراة عظيمة أمام فريق لعب مع كل دقيقة تمر بخشونة وقوة أكبر. حدث شيء غريب بعدها. سجل رد ستار هدفا ذاتيا في نفسه بعد خطأ دفاعي، ولكنهم تمكنوا من التعادل لاحقا عبر ستويشكوفيتش.
وصلت المباراة لركلات الترجيح التي فزنا فيها بعدما سجل ريكارد الركلة الحاسمة. يقول الكثيرون أن التوفيق وقف بجانبنا وأرسل ضباب اليوم الأول لينقذنا. لا يوجد شك في أن الحظ عنصر مؤثر، ولكن يجب أن تكون لديك المؤهلات اللازمة لاستغلاله. ما زالت لدي قناعة أننا أيا كان الوضع كنا سنفوز بهذه المباراة.
الألماني والإسباني
أوقعتنا قرعة ربع النهائي مع فيردر بريمن. لعبنا الذهاب في ألمانيا تحت وطأة أمطار لا تتوقف دون فيليبي غالي أو مالديني أو فيرديس. تعادلنا سلبيا وسجلنا هدفا لم يحتسبه الحكم، بل ترك الكرة تُلعب بعدها في مرتدة كادت تكلفنا هدفا.
سيطرنا على مجريات المباراة في العودة بسان سيرو. أهدرنا الكثير من الفرص. كان الأمر يبدو كما لو أن الكرة لا ترغب في دخول المرمى. فزنا في النهاية بفضل ضربة جزاء مشكوك في صحتها، ولكننا أخيرا وصلنا لنصف النهائي.
أوقعتنا قرعة نصف النهائي مع ريال مدريد أحد أقوى الفرق في العالم صاحب الكؤوس الأوروبية الخمس المتتالية، وصاحب التاريخ الذي لا يمكن مقارنته والذي كتب فصولا ملحمية في كرة القدم الأوروبية. كان يجب أن نلعب المباراة الأولى في مدريد.
سجل فان باستن هدفا رهيبا. رأسية من على حافة منطقة الجزاء. هدف سينمائي ولعبة قوية ودقيقة مبتكرة قلما تتكرر. انتهت المباراة بهدف لمثله بعد أن ألغوا لنا هدفا سجله خوليت على الرغم من كونه شرعيا. أتذكر أن بوتراغينيو الذي كانوا يدعونه "الفارس الأبيض" قال لي "ألعب في ريال مدريد منذ كان عمري 11 عاما ولا أتذكر سواء في حقبتي كطفل أو لاعب فريقاً فرض طريقة لعبه وهاجمنا واستحوذ على الكرة بمثل هذه الطريقة".
في مباراة الإياب بسان سيرو كنا على موعد مع مباراة ستغير تاريخنا للأبد. كانت المدرجات ستنفجر من كثرة الجماهير. الأجواء كانت تنذر بمساء أسطوري. طلبت من اللاعبين التركيز التام. نحن على وشك صناعة التاريخ. أتذكر أنه قبل بداية اللقاء كان برلسكوني معنا في الغرفة وسمع لاعبي ريال مدريد يصرخون من غرفتهم وسألني "لماذا لا نفعل مثلهم؟"، فأجبته بكل بساطة "إنهم يشعرون بالخوف. أما نحن فلا".
في البداية كان الفريق متراجعا بعض الشيء بسبب ضغط ريال مدريد، ولكنهم لم يتمكنوا من اختراق خطنا الدفاعي وعلى رأسه كل من باريزي وخوليت الذي مرر (د18) الكرة لأنشيلوتي الذي تحرر من الرقابة وسدد كرة من على بعد 30 مترا لتسكن الشباك.
لم يكن هناك رد فعل من قبل ريال مدريد. ثم جاء دونادوني الذي مرر لتاسوتي الذي أرسل عرضية باليمنى ليسجل ريكارد الهدف الثاني. تعرض ريال مدريد للتصفية من قوة لهبنا والضغط الذي كان يمارسه ميلان "الشيطاني". كانت بقية المباراة تتعلق فقط بما يفعله الـ"روسونيري". جاء الهدف الثالث عبر خوليت، ثم أضاف فان باستن الهدف الرابع قبل أن يضع دونادوني الخامس.
النهائي
أخيرا وصلنا للنهائي المنتظر في برشلونة. هناك كان ينتظرنا ستيوا بوخارست. كنا على وشك خطوة واحد من حلم الفوز بكأس أوروبا. أتذكر أنه قبل المباراة كتب الصحافي الرياضي جياني بريرا "نحن سنلعب أمام ملوك الاستحواذ. يجب علينا انتظارهم ومفاجأتهم بالمرتدات". كنت أعلم ما الذي يجب أن نفعله وسألت اللاعبين عن رأيهم وأتى الرد من خوليت "مدربي.. علينا اللعب كما نفعل دائما. لنهاجمهم من الدقيقة الأولى حتى الدقيقة الأخيرة". كان هذا هو رأي الجميع. لم تكن الصحافة تدرك بعد ما الذي يعنيه هذا الفريق.
افتتح خوليت التسجيل أمام ستيوا في الدقيقة 18 من لعبة متفق عليها هذا بخلاف تسجيله الهدف الثالث بلعبة أستاذية من خارج منطقة الجزاء حيث أوقف الكرة على صدره بعد عرضية من اليسرى ومزقت تسديدته الشباك تقريبا. أنهينا الشوط الاول متقدمين بثلاثة أهداف قبل أن يختتم فان باستن الرباعية في الشوط الثاني. لم يكن يقدر أحد على النقاش بخصوص أفضليتنا.
أتذكر أن مجلة (وورلد سوكر) الإنكليزية كتبت أن ميلان 1989 كان أفضل فريق كرة قدم يخص نادياً في كل الأزمنة وأكثرها متعة، وأنه على الصعيد العام يأتي فقط بعد برازيل 1970 ومجر 1953 وهولندا 1974، هذا فيما أن مجلة (فرانس فوتبول) كتبت "أعظم فريق كرة قدم في فترة ما بعد الحرب".
الدوري وكأس السوبر
أنهينا الدوري في موسم 1988-1989 بالمركز الثالث حيث توج إنتر باللقب بـ58 نقطة وخلفه نابولي 48 نقطة ونحن على بعد نقطة من الوصيف. كان تركيزنا بالكامل منصبا على كأس أوروبا ولكن محليا لم نقدم نتائج سيئة للغاية: 16 انتصاراً و14 تعادلا وأربع هزائم فقط وسجلنا 61 هدفاً واستقبلنا 25.
اختتمنا العام بمواجهة كأس السوبر التي لعبت في 14 يونيو 1989 بميلانو. واجهنا سامبدوريا أبطال الكأس. كان لقبا جديدا لا يمكن أن يضيع من بين أيدينا ولهذا تمكنا من الفوز به بثلاثة أهداف لواحد.
قررت في ذلك المساء العودة لفوسينانو. ذهبت للفراش من أجل الحصول على بعض الراحة. في اليوم التالي استيقظت ومذاق الانتصار في فمي. ولم لا؟ كنت سعيدا. سعيدا بسبب الفريق وبرلسكوني وغالياني واللاعبين والجماهير والنادي، ففي النهاية كان فريقي الأسطوري قد ولد.