(تحليل) في حضرة ميسي.. تهتزّ الثوابت الكرويّة!

07 مايو 2015
+ الخط -


"لا يوجد دفاع بإمكانه وقف خطورته. إنه أمر مستحيل. لا يوجد مدرب يقدر على فعل ذلك. لا يمكن إيقاف الموهبة"، هكذا كانت إجابة بيب جوارديولا حينما سئل قبل المباراة في المؤتمر التقديمي عن كيفية التعامل مع الأرجنتيني ميسي، مؤكداً أن هذه الطينة من اللاعبين عندما تكون في مستواها وجاهزيتها، من المستحيل التعامل معها بشكل طبيعي، لأنها نوعية خارجة عن المألوف، وتختلف تماماً عن بقية الأسماء الأخرى داخل المستطيل الأخضر.

وبعد نهاية المباراة بفوز برشلونة بالثلاثة، قالها بيب صريحة دون تأويل: "ألم أقل لكم من قبل؟ ميسي لاعب غير قابل للتصنيف. حاولنا فعل شيء ضده، واعتقدنا أننا نجحنا في ذلك خلال 75 دقيقة، لكن ميسي قلب المعطيات كعادته، ووضع فريقه في موقف أفضل خلال جولتي نصف النهائي".

البعض قال إن جوارديولا يبالغ قبل المباراة، وتصوّر جزء غير قليل من المتابعين أنه يحاول إخماد بركان ليو بهذا الكلام المعسول، وانطلق معظم المراقبين إلى النهاية البيزنطية المكررة نفسها، كان على هذا المدرب فعل ذلك، بينما أخطأ ذلك الاسم في التعامل مع هذه اللعبة، وذهب آخر إلى التأكيد بضرورة قيام "الكوتش" بسماع نصائحه حتى ينجح في المباراة القادمة، وكأن كرة القدم في النهاية علم مكتمل الأركان، له قواعده التي لا تتغيّر أبداً، لكن في هذه اللعبة، ليست النتيجة النهائية لمقدمة 1 + 1 تكون 2 في كل الأحوال!


الدفاع بالكرة
اتفق جوارديولا مع صديقه الحميم خوانما ليّو، أثناء فترة وجود الثنائي في المكسيك قديماً، على صبغة تكتيكية واحدة، خاصة بأخذ كل التفوق من التمركز، لذلك اعتمد الفيلسوف على فكرة التمركز المحوري بمنطقة الوسط، وجعل الخصم يتحرك تجاه الكرة لا لاعبيه الذين يتخذون مواقع أفضل نتيجة تمركزهم المثالي. ويتذكر الفيلسوف نصيحة العبقري المنسي أثناء مشاهدة المباريات بالمكسيك وتحليلها، عندما سأله ما فائدة لعب الكرة بين الخطوط طالما لا تستفز الخصم وتجعله بعيداً عن مناطقه؟

وعندما لا يستطيع جوارديولا الهجوم، فإنه يدافع بالكرة، أي يحاول الحصول عليها وحرمان الخصم منها، مع تثبيت لاعبيه في الأماكن الصحيحة داخل الملعب، حتى إذا فكر المنافس في الهجوم وتبادل التمريرات، فإنه يصطدم دائماً بغابة منظمة من السيقان في منتصف الملعب، وهذا ما حدث بالتحديد خلال أول 75 دقيقة من المباراة.

بدأ بايرن ميونيخ اللقاء بثلاثي خلفي صريح، وجاءت أول هجمات برشلونة عن طريق سواريز نتيجة المساحات الشاسعة أمام نوير، لذلك أعاد المدرب وضعه سريعاً وتحوّل إلى رباعي دفاعي واضح، رافينيا، بنعطية، بواتينج، وبرنات أمام نوير، مع وجود ألونسو كمدعم مستمر، يرافقه كلاً من تياجو وشفاينشتايجر خلف موللر وليفاندوفيسكي، لذلك ضغط البافاري بأكثر من خمسة لاعبين في منتصف ملعب البارسا، ما نتج عنه شلل كاتلوني تام، ظهر بوضوح خلال بداية الشوط الثاني.


قواعد اللعبة
كرة القدم لعبة لها قواعدها وقوانينها الخاصة، التي ينص أحد بنودها على ضرورة خنق الخصم بمراقبة لاعب ارتكازه، لذلك وجد بوسكيتس نفسه محاصراً كلما وصلته الكرة، ولجأ برشلونة في معظم الأحيان إلى التمرير الطرفي عن طريق الأظهرة، لذلك شاهدنا كمية غير عادية من رميات التماس سواء على اليمين أو اليسار، وسارت المباراة نحو نتيجة التعادل السلبي أو التوقع الآخر الخاص بخطف هدف من أحد الفريقين في الدقائق الحاسمة، لكن كل هذه الثوابت جرى نسفها تماماً، والسبب ميسي!

يحصل ميسي على الكرة، يعاني من عنف نتيجة تدخل على القدم، لكنه لا يتوقف، يقوم الخصم بشد قميصه ويستمر الرقم 10 في المضيّ نحو هدفه. كرة القدم هذه الأيام تدور كثيراً حول الحصول على ضربة جزاء، أو إجبار اللاعب المنافس على تلقي إنذار أو طرد، ويبدو لي أن ميسي لا يهتم ابداً بتلك الأمور والأجزاء، ويلعب كرة قدم خاصة به هو فقط.

وأمام بايرن فعل ميسي هذه الصفات بالتحديد، استغل ألفيش خطأ برنات القاتل ورمى الكرة سريعاً إلى ليو، الأرجنتيني يستلم في أضيق فراغ ممكن، أمامه مدافع يغلق الزاوية وبجواره فيليب لام، اللاعب الذي استخدمه جوارديولا عند الحاجة لمراقبة نجم برشلونة، لكنه يحصل على الكرة ويتخذ القرار في جزء من الثانية ويضع الكرة في الزاوية الميتة للعملاق نوير محرزاً الهدف الأول.

وبدأ العرض منذ هذه اللحظة، ونسف الملك رقم 10 كل خطط وعمل جوارديولا، الرجل الذي حاول قدر المستطاع إيقاف خطورة بارسا، وكان قاب قوسين أو أدنى من تحقيق نتيجة إيجابية في كامب نو رغم غياباته، لكن ميسي كعادته يفعل المستحيل. وتؤكد كل النظريات أن أفضل طريقة ممكنة لتسجيل هدف هي القطع في العمق والتسديد، لكن ليو يفعل العكس، يختار المراوغة والاستمرار في الجهة نفسها محرزاً هدفاً أكروباتياً فوق رأس أفضل حارس في المعمورة!


الموهبة الربانية
من الصعب جداً تحديد الصفات الرئيسية التي تستطيع بها تحديد قيمة اللاعب أو دوره، وهنا لفظ اللاعب يطلق فقط على عظماء اللعبة. مارادونا، دي ستيفانو، بيليه، أسماء لها ثقل كبير تاريخياً، لكن من الصعب تحديد أفضلية نجم على آخر، لأن كل لاعب له صفاته الخاصة التي جعلته في مكانة مختلفة عن الجميع، وبالتالي يجب أن يطلق عليهم مصطلح اللاعب بشكل شمولي، وميسي هو الـPLAYER بالمفهوم الخالص في الزمن الحالي.

هناك نجوم عظام حالياً يستحقون التخليد في سجلات التاريخ، لكنهم في النهاية "لاعبي كرة قدم"، بينما ميسي هو "اللاعب" وفق المفهوم البدائي للكرة. لذلك يقول عنه أريجو ساكي بعد نهاية القمة: "ميسي يشبه دييجو. من المستحيل مراقبته رجلاً لرجل، أو اثنان ضده أو حتى ثلاثة. يجب أن يتحد الفريق بشكل كامل داخل نظام تكتيكي مغلق من أجل ذلك". وهذا الأمر من الممكن أن يحدث لكن نادراً وفي ظروف خاصة جداً، مع الأسباب الخاصة التي من بينها ألا يكون ليو في يومه.

لذلك كان أفضل وصف ممكن لهذه المباراة ما قاله الخبير الإيطالي ساكي، بعد صافرة الحكم: "أنا شديد الأسف لجوارديولا. إنه مدرب عظيم. حاول فعل شيء، لكنه كان يعلم أن هناك وقت سيأتي وفريقه منقوص، ويقابل منافساً صعب المراس، يقوده نجم استثنائي"!


الكهنوت الكروي
تدور كرة القدم في السنوات الأخيرة حول مفهوم الـModern Football، مع دخول لغة الإحصائيات والأرقام إلى عقل المستديرة، وتحويلها إلى صناعة تجارية تدر أرباحاً وفيرة لشركات التحليل الفني والمعلومات البيانية، مع انتشار شاسع لهذه العبارات الرنانة: "كرة القدم لها ثوابت تكتيكية، هذا الفريق لعب بهذه الخطة، بينما كان على خصمه اللعب بـ4-4-2 أو 4-3-3 أو 4-6-0، مع عدد هائل من المدونات الخاصة برصد تحرك، تمركز، مردود، أنفاس كل لاعب داخل المستطيل.

لذلك، أصبحت اللعبة بمثابة السلعة فائقة الرواج، وصار علم التحليل الكروي أقرب لمفهوم "الكهنوت" غير القابل أبداً للمس، والدليل على ذلك انتشار الخطط الدفاعية بكثرة في الملاعب، بالإضافة إلى تحول مقياس الفوز بالجوائز ليكون خاصاً فقط بالأرقام، الأهداف، الأسيست.

قليلون جداً من يسيرون باللعبة بعيداً عن هذه النظرة، وليونيل ميسي واحد من هؤلاء، إذا لم يكن هو الأبرز على الإطلاق، لكونه موهبة فذة قادرة على كسر كل التابوهات المصنوعة، وإعادة اللعبة إلى سنواتها الأولى، حيث البساطة واللعب الجمالي الصريح، ولا أجد أفضل من هذه المقولة لخوانما ليّو عن ميسي:

"الأرجنتيني هو المنهج النموذجي، الأساس لكل ما يدور حولنا، ونحن نتحرك في السياق الذي بمثابة جزء أقرب لنا، لذلك ليو هو الدليل، على ما تبقى من عظمة الكرة".

المساهمون