صفقة القرن واستراتيجية ترامب الشرق أوسطية

22 فبراير 2020
نقل السفارة الأميركية بداية فرض الأمر الواقع (فاليري شالفورين/Getty)
+ الخط -
أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب خِطّتَه للسلام في الشرق الأوسط، المسماة إعلاميا "صفقة القرن"، والتي غاب عن أهدافها المُعلَنة هدفها الأهم؛ تحقيق سلامٍ دائمٍ بين الفلسطينيين والإسرائيليين، حين منحت للإسرائيليين كل ما يحتاجونه، وتركت للفلسطينيين ما لا تهتم به إسرائيل.

كانت الصفقة المُعلَنة نتيجة منطقية لنهج المجتمع الدولي القديم تجاه الصراع، فلأكثر من قرن دعم الغرب الأهداف الصهيونية في فلسطين على حساب سكّانها الأصليين، منذ وعد بلفور (1917م)، مرورا بقرار التقسيم (1947م) الذي منح اليهود (أقل من ثلث السكان يمتلكون أقل من 7% من الأراضي) النسبة الكبرى من الأرض، والسكوت عن احتلال إسرائيل بعد حرب 1948م لأكثر من نصف الأراضي المخصصة للدولة العربية، وتحويل معظم أهلها إلى لاجئين، ترفض عودتهم. استمر هذا النهج مع التهام الاحتلال إثر حرب عام 1967م النسبة المتبقية البالغة 22% من مساحة فلسطين، وإقامة إسرائيل مستوطناتٍ غير قانونية في المناطق المحتلة، وإعلانها في العام 1980، ضمّ القدس الشرقية رسمياً. فرغم الإدانات، تقاعس المجتمع الدولي عن محاسبة إسرائيل، واستمر دعمها أميركيا؛ سياسيا، وماليا، وعسكريا.

في عام 1993، منحت اتفاقات أوسلو الفلسطينيين حكما ذاتيا محدودا على جزر متناثرة من الأراضي، وأُجّلت قضايا اللاجئين، والقدس، والمستوطنات، والدولة، إلى مفاوضات "الوضع النهائي". وفي العام 2000، قدّم الرئيس بيل كلينتون أوّل خطّة أميركية لإقامة دولة فلسطينية، تقترح ضَمّ المستوطنات الإسرائيلية الكبيرة، ومعها المستوطنات اليهودية في القدس الشرقية، إلى إسرائيل، مقابل دولة فلسطينية منزوعة السلاح، بمنشآت عسكرية إسرائيلية، ومراقبين دوليين على أراضيها. وكما هي حال "صفقة القرن"، لم تمنح خُطّة كلينتون الفلسطينيين دولة بل مزيدا من حكم ذاتي.

لم يكن الإعلان عن الصفقة خطوة سياسية تعزّز فرص كل من ترامب وبينيامين نتنياهو الانتخابية، بل كانت أيضا، ورقة التوت الأخيرة التي سقطت عن استراتيجية ترامب للشرق الأوسط، بعد ظن ساد بأن ترامب ليس استراتيجيا، وأنه يعيش اللحظة، ويتصرف بحدود التكتيك أو الغريزة، دون تفكير بالآثار اللاحقة.

تتكشف استراتيجية ترامب في السياسة الخارجية تجاه الشرق الأوسط، كمحاولة متنامية باستمرار لمحو القواعد التقليدية وفرض قواعد جديدة، منذ انقلابه على الاتفاق النووي الذي أبرمته إدارة سلفه باراك أوباما مع إيران، لتتبلور ملامحها مع كل خطوة جديدة يخطوها ترامب، تمثّل آخرها في الإعلان عن بنود "صفقة القرن".

لم يتردّد ترامب في التلميح لاستراتيجيته، وإن مواربة وراء عباراته الهزلية الساخرة، التي تضمنها خطابه في 12 أكتوبر /تشرين الأول 2019، بعد نقل السفارة الأميركية إلى القدس، إذ ذهب فيه إلى أن الإدارات الأميركية السابقة وعدت بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، وبنقل السفارة الأميركية إليها، لكنّ أيا منها لم يجرُؤ على تلك الخطوة، خشية اعتراضات متوقّعة، فكان الوحيد الذي أقدم على ذلك، متجاهلا الرد على مكالمات احتجاجية حين تنفيذ الخطوة، ليجد، بعدها أن الأمور على ما يرام، وليس ثمة ردود فعل غاضبة.

كسر ترامب التقليد الأميركي الداعم للحلفاء من دون مقابل، وبعد أن كان على الرؤساء الأميركيين الأخذ في الحسبان رد فعل خصوم أميركا حيال ما ينوون القيام به، أصبح على خصومها أن يقلقوا حيال ردود الفعل الأميركية، فمثلا؛ أعطى ترامب أوامره بتصفية اللواء قاسم سليماني رغم اعتراضات من بعض أقطاب إدارته، خشية ردود الفعل الإيرانية، ليفرض على الإيرانيين القلق حيال رد الفعل الأميركي لقاء أي عمل انتقامي، فأتى هذا العمل متواضعا.

وبينما تمسّك الموقف الأميركي التقليدي من قضايا "الوضع النهائي" بحلّها عبر مفاوضات، يتفق خلالها الإسرائيليون والفلسطينيون على حلول وسط بشأن المسائل الحساسة، بات لدى الفلسطينيين أربع سنوات ليقرروا خلالها الجلوس إلى الطاولة، لا للتفاوض كما هو مُعلن، بل ليقولوا نعم لسياسة القوة والأمر الواقع. يبدو أن نتنياهو فهم تلك الاستراتيجية الأميركية حين أعلن ترامب كأول زعيم عالمي يعترف بـ"الحق التاريخي" لليهود في "يهودا والسامرة".

في معظم المرات التي رفع فيها الفلسطينيون والعرب لاءاتهم عاليا، حصدوا أقلّ مما توقّعوا أن توفّره لهم بكثير، وعلى الفلسطينيين اليوم، منفردين تقريبا في مواجهة تلك الاستراتيجية، توفير الضمانات بأن ذلك لن يتكرر مع "لا" يرفعونها مجددا.
المساهمون