الأب صانع العباقرة

05 يوليو 2017
تاريخ العباقرة والمفكرين حافل بإشارات دائمة إلى تأثير الأب(Getty)
+ الخط -




يحكي لنا ريتشارد فاينمن، الفيزيائي واسع الشهرة والحاصل على نوبل، عن أبيه، فيقول إنه أثناء قراءتهما معاً في الموسوعة البريطانية لم يكن يعطيه المعلومات بشكل جاف فلا يقول مثلاً إن هذا الديناصور، البراكيوصور مثلاً، طوله 25 متراً وارتفاعة 15 متراً، بل يضيف أن ذلك يعني أنه لو كان واقفًا على الأرض الآن لاستطاع رأسه كسر الشباك، لأنه أعرض منه، في شقتنا بالدور الخامس.

يضيف فاينمن أن تأثير أبيه الواسع عليه امتد إلى أعماقه، فكان يأخذه في بعض الرحلات الخاصة في الغابة، ليقول له مشيرا إلى طائر ما "هل تعرف هذا الطائر؟"، ثم يضيف ما معناه أنه يمكن لنا أن ننطق اسم هذا الطائر بمائة لغة، لكن ما زلنا لا نعرف أي شيء عنه بعد، لكي نعرف أي شيء عن الطائر دعنا نراقبه، نتعلم بعض الشيء عن تصرفاته في ظروف مختلفة، الآن نعرف ما هو الطائر.

هكذا يمتد تأثير أبُ فاينمن القوي ليصنع فيما بعد نجماً لامعاً في سماء الفيزياء لا يخبو ضوؤه إلى اليوم، ولا ينسى فاينمن في لقاءاته ومحاضراته أن يذكرنا بتأثير أبيه.
تركّز معظم الرسائل التربوية حاليًا مجهودها الكامل ناحية ما يمكن أن تقدمه الأم فقط. في الحقيقة، على مدى زمني طويل تصور متخصصو علم النفس أن علاقة الابن بأمه هي الأقوى على الإطلاق بفارق شاسع عن علاقة الطفل بأبيه، لكن خلال العقود القليلة الأخيرة تلاشت تلك الرؤية تماما وظهر أن للأب دوراً محورياً في حياة الطفل يكاد يكافئ بالضبط دور الأم، وأن لطريقته في التربية نفس الأثر، بل إن بعض المواقف يكون تأثير الأب التربوي فيها أكبر من دور الأم.

ما يتفق عليه الجميع الآن هو أن شعور الابن أنه محبوب من قبل أبيه له تأثير الأم، وكان ذلك من خلال دراسة عائلات فقدت الأب لسبب أو لآخر، ويعد دور الأب محوريًا في عملية سحب الأطفال قليلاً من عالم أمهم للعالم الخارجي، ويؤثر ذلك في اتزان الأطفال فيما بعد، وقدرتهم على التواصل.


يلعب الأب حينما يشارك مع الأم في مساعدة الأطفال أثناء تعلمهم القراءة والكتابة دوراً قوياً في تحسن أدائهم بفارق واسع عن الحالة التي تشارك فيها الأم فقط، ويجهزهم ذلك فيما بعد للمدرسة بشكل جيّد، كما يتمكن وجود الأب في تلك العملية من تمرير رسائل ضمنية للأطفال لها علاقة بما تعنيه مفاهيم كالقيمة، الإنجاز، أهمية المعرفة، ويفيدهم ذلك في مراحلهم الدراسية كثيرًا.

بل إن الآباء غير المتعلمين، لكن المهتمين بآداء أطفالهم الدراسي في نفس الوقت، والمهتمين أيضًا بدعمهم الدائم في مسيرتهم الدراسية دون مشاركة فعلية في تعليمهم، يحصل أبناؤهم على درجات أعلى، ويحبون الدراسة والكتب بشكل أكبر من غيرهم، في الحقيقة يذكرني ذلك بحوار مع مارينا فون نويمان ابنة العالم العظيم والرياضياتي الشهير جون فون نويمان، تقول مارينا إن أبوها كان يغيب عن البيت كثيرًا، لكنه حينما يصل للبيت، أو يرسل خطابًا، كان أول ما يهتم بالسؤال عنه هو تحصيلها الدراسي، هل استذكرت دروسها جيّدا؟ هل حصلت على درجات جيّدة؟

ورغم أن التحصيل الدراسي فقط هو جزء من العملية، وأنه يجب على الأب أن يدعم ابنه في الخروج عن نمط الدراسة السائد، لكن لا ننسى وقع المدرسة على الطفل نفسه، ربما لا يعرف كثير من الآباء أن للمدرسة تأثير البيت في الطفل، ولها بداخله اهتمام جم، لذلك إذا لعب الأب دوراً كبيراً في هذا الجزء المهم من حياة طفله، ستكون النتائج جيّدة على طول الخط.
أنا أب، أعرف جيّداً أن العمل هو أمر مرهق، بعد اثنتي عشرة ساعة عمل لا يوجد أي مجال إلا لوجبة خفيفة مع بعض الثرثرة واللعب مع الأطفال ثم النوم والاستعداد لليوم التالي، لكن لا يجب، ولا يمكن، أن يكون ذلك بأي حال من الأحوال مبرراً للتخلي عن المشاركة في دفع أطفالك للتعلم، خاصة تعلم العلوم، والتي ربما تحتاج جهدًا أكبر وأفكارا أصيلة مبتكرة لجعل ابنك يقع في حبها.

علم ابنك/ ابنتك الشطرنج - مثلًا - بنفسك والعب معهم، إن كنت لا تعرف عن اللعبة شيئاً تعلمها أنت أولا، لتكن لكما رحلاتكما الخاصة معا، حواركما الخاص حول كل شيء، ادفعهم لتأمل الطبيعة، للملاحظة، حينما يخاف طفلك من حشرة ما امسك بها وتأملا معًا سلوكها، تعامل معه كصديق وتقبل أسئلته الغريبة بجدية واهتمام وإلا سيمتنع عن التساؤل وهو جل ما نخشاه هنا، إن دفع الطفل للتساؤل هو خلق لعالِم، فيلسوف، مُفكر مستقبلي.

وتلك نقطة مهمة، المدرسة تعلم الأطفال أن يجيبوا على الأسئلة المتاحة فقط في إطار المنهج، ومهما بلغت قدرة ومرونة التعليم المدرسي فإنه لن يكون بقدرتك على حفز قدرة الطفل على التساؤل، وينشأ ذلك بجعله يشعر أنه أنجز لمجرد أنه سأل، بمعنى أن تتلقى سؤاله عن ماهية النار، أو فائدة العملات، أو إن كنّا وحدنا في الكون، فرحًا به، قائلًا مثلًا: "هل ابتكرت هذا السؤال بمفردك؟"، "أحسنت، هذا سؤال جيّد".

ينظر الطفل/ الطفلة إلى الأب كبطل، وما يفعله الأب في المنزل هو منهج تعليمي يشبه بالنسبة للطفل ما يتعلمّه في المدرسة، فإن شاهدك تقرأ فسيترسب بداخله شعور غريزي أن القراءة هي شيء مهم، وإن شاهدك تشتم فسوف يعتقد أن ذلك شيء مهم، ولا يهم هنا ما سوف تفعله بتنبيهه أن التدخين – مثلًا – شيء خاطئ، لأن الطفل لا يتعامل هنا بما يفهمه، ولكن بما يستشعره في خطواتك اليومية.

لذلك فإن اقتناءك مكتبة في المنزل لهو إذن استثمار بعيد الأمد سوف يفتح الباب لكامل العائلة أن تستمر في التعلّم، بل إننا سنقرأ بشكل متكرر في سير العظماء في العلوم والفلسفات جملة "مكتبة والده"، تلك التي وجد فيه ضالته، وبدأ منها رحلته في صناعة الخلود عبر أفكاره، إن كانت معادلات رياضية، أو رواية ساحرة، أو فلسفة جديدة .. إلخ.

اشتر له تلسكوب صغيراً، تعلم قليلا عن السماء ليلا وشاهدا القمر وتفاصيله معًا من بلكون المنزل، أعرف أن الأم تضع جم تركيزها على التحصيل الدراسي، ليكن دورك في الجهة المقابلة هو فتح الباب الخلفي للعالم، انطلق معه للطبيعة، للسماء، للنجوم، اقرأ معه الكتب المصورة، شاركه بأفكارك، ومثّل له العلوم التي تتعلمانها معا بشكل مقارب للواقع، ابذل جهدًا في سبيل ذلك، نعم صديقي، إن كل ساعة تبذلها في هذا الاتجاه، كل دقيقة منها، سوف تصبح يومًا ما ذات أثر عظيم .. فقط تأمل معي الاحتمالات المتاحة، من يدري؟!




المساهمون