التهذيب الإيجابي: حزم وتعاطف وتشجيع

08 مايو 2017
اختيار كلمات التشجيع أمر ضروري (Getty)
+ الخط -
تحدثنا في هذه السلسلة عن "التهذيب الإيجابي" كأسلوب تربوي لا يرتكز على العقاب، وذكرنا أنه ينبني على سبعة أركان أساسية، تحدثنا عن أربعة منها، وهي أنه:

وفي الجزء الأخير من السلسلة نتناول الأركان الثلاثة الباقية، وهي أنه:


حازم ومتعاطف في وقت واحد

التهذيب الإيجابي ليس هو ذلك النمط التربوي "المتساهل" حيث تكون الاختيارات لا محدودة  أي "افعل ما تشاء"، و هو أيضاً ليس ذلك النمط "الحازم فقط" حيث تكون هناك أوامر بدون حرية أو خيارات "أنت تفعل هذا لأنني أمرتك به". هو في الحقيقة لا هذا ولا ذاك، فهو يمنح الحرية مع بعض القواعد، ويقدم اختيارات ولكنها في حدود. وهذا التوازن في غاية الصعوبة، فبعض المربّين يميلون للصرامة والحزم والهيمنة ويوهمون أنفسهم أنهم يحققون التوازن، وهم في الحقيقة يضعون حدوداً تجعل الحرية شكلية وزائفة في الحقيقة. وعلى الجانب الآخر، هناك من يستندون على الحرية المطلقة المتساهلة التي تبيح لهم إهمالهم لأبنائهم. ولكن في التهذيب الإيجابي هناك حرية حقيقية ومساحة للاختيار، ولكن هناك أيضاً حدود.

الحرية قد تكون على عكس رغبة الأب والأم، فالأب الطبيب لا يدفع ابنه ليكون طبيباً مثله فقد يكون أكثر ميلاً للفنون، والأم التي تميل للهدوء والرصانة لا ينبغي أن تمنع ابنتها من أن تكون اجتماعية مرحة منفتحة، والأب المحافظ ليس بالضرورة أن يسخر من ابنه الذي يختار نمطاً مخالفاً له في الملبس.

 

الحرية الحقيقية ستكون في كثير من الأحيان عكس رغبتك. ولكن كما ذكرنا هناك حدود، عندما يكون هناك ضرر واضح أو اصطدام حقيقي مع الأخلاق التي لا خلاف حولها، أو تهديد

للآخرين من أجل الذات. هنا يأتي التهذيب الإيجابي فيفتح مساحة للحرية، ويضع حدوداً. "تعلم الآلة الموسيقية كما تشاء، ولكن مع الالتزام بالحد الأدنى من الدرجات التي اتفقنا عليها".. "العب كما تشاء، ولكن بعد الانتهاء من اللعب، فمن غير المقبول أن تترك حجرتك في حالة من الفوضى، إما أن تقوم بترتيبها الآن، أو بعد الانتهاء من واجباتك، أو أقوم أنا بترتيبها في الوقت الذي كان مفترضاً أن أعد لك فيه الحلوى، وبالتالي لا حلوى اليوم".

يدع الطفل يواجه العواقب (العواقب الطبيعية أو العواقب المنطقية)

بما أننا اتفقنا على أن التربية هي "رحلة تعلم"، بالتالي ليس مقبولاً أن تكون التجارب كلها "سابقة التجهيز"، أي أن الطفل يحتاج أن يخوض تجارب حقيقية، ويرتكب حماقات حقيقية، ويتذوق طعم عواقب أفعاله، بدون شماتة أو تقريع أو ابتزاز من الأم للطفل لأنه "لم يستمع للأوامر"، وإنما يكون هذا في جو عام من التعليم والسير في رحلة النضج الممتعة.

فلا بأس أن يختار في مرة ملابس من خامة سيئة فيتعلم ألا يكرر هذا، ولا بأس في أن يندفع في علاقاته ويخوض تجارب مؤلمة ليتعلم فرز الناس والأصدقاء، ولا بأس أن يندفع وراء هواية ثم يكتشف أنها غير حقيقية بعد أن يخسر فيها وقتاً أو جهداً، ولا بأس أن يصر على مكان للتنزه ثم يكتشف أنه لم يكن الأنسب.. أي أن "العقاب" الذي سيتعرض له الطفل نتيجة حمقه هو "عقاب طبيعي" نتيجة الاختيار نفسه، وليس من صنع الأب أو الأم.. ولكن هل نترك الطفل دوماً يواجه تلك العواقب الطبيعية؟

 



قد نتدخل بصناعة العواقب "المنطقية" في ثلاث حالات:

- عندما يكون اختيار الطفل خطراً (مثل أن يقود سيارة أبيه وهو لا يزال طفلاً، فلا نتركه هنا يواجه العاقبة الطبيعية وهي الموت أو السجن!!).
- وعندما يتعارض سلوكه مع حقوق الآخرين (مثل أن يستولي على ممتلكات غيره، فليس مقبولاً أن حرية اختيار الطفل تكون على حساب الآخرين).
- وعندما لا تمثل العواقب الطبيعية فارقاً للطفل (مثل أنه إذا لم يذاكر دروسه سيحصل على درجات سيئة وهو لا يهتم بذلك ولا يمثل له فارقاً، عندئذ إذا تركته يواجه هذه العاقبة فإنه لن يتأثر أصلاً ولن يرتدع عن التقصير).



في هذه الحالات الثلاث، لا يترك المربي ابنه للعواقب الطبيعية، وإنما يتدخل بالمنع أو بصناعة العقاب المنطقي المناسب الذي يشترط أن يتفق عليها مسبقاً، وأن يكون له علاقة بالسلوك، وأن يكون منطقياً.

قائم على التشجيع والتوضيح للطفل كم هو كفء وقادر


هذا طبيعي كجزء من رحلة التعليم التي تحدثنا عنها كثيراً. ونريد هنا أن نوضح الفرق بين المدح والتشجيع. فالمدح ليس هو الاختيار الأفضل، وهو تلك الكلمات من عينة "برافو" "أنت ولد ممتاز" "هذا شيء عظيم"، فهي كلمات عامة تعبر عن مجرد إطراء يكرس الغرور في شخصية الطفل، ولا تعلمه شيئاً ذا قيمة.

أما في التشجيع، فهو أن نقول كلاما محددا ومحفزا ومعلما، لا نقول "أنت ولد ممتاز" ولكن نقول "تصرفك هنا كان فيه (إبداع)، استطعت أن (تتحمل المسؤولية) أو أن تتعامل بـ(ذكاء اجتماعي)"، فيفهم الطفل ما هو السلوك الذي يمدح من أجله، ويشعر بالكفاءة ويتحمس للمزيد من النمو. وكذلك فإن عبارات التشجيع يجب أن تحمل معاني الثقة "أنا متأكدة أنك ستتغلب على هذه المشكلة"، ومعاني التقدير "أنا ممتنة لمساعدتك لي وللجهد الذي بذلته"، والمسؤولية "لقد تصرفت بمسؤولية ونضج".. ولا ننسى أيضاً أن التشجيع لا يكون عند النجاح فقط ولكنه يكون أيضاً عند الإخفاق، فيحمل عبارات تحمل معاني القبول، ويبحث عن نقاط القوة، ويعطي الأمل، ويمط الخيط نحو بداية جديدة: "أنا واثقة أنك ستتجاوز هذا وستصبح أفضل في هذا الجانب".

 

المساهمون